Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

بين التراث والموروث 3 – 3

تحدثت في الحلقتين السابقتين عن الخلط الكبير الذي يقع فيه كثير من المشتغلين بالكتابة وبالشأن العام ، بين مفهومي التراث والموروث.

A A
تحدثت في الحلقتين السابقتين عن الخلط الكبير الذي يقع فيه كثير من المشتغلين بالكتابة وبالشأن العام ، بين مفهومي التراث والموروث.
هذا الخلط الناتج عن الاستسهال وغياب المنهجية ، ليس هو الوجه الوحيد للخلط عند استخدام مصطلح التراث . هناك وجه آخر للخلط لا يقل خطورة عن سابقه .. وهذا الوجه من الخلط يتجسد في التعامل مع مصطلح التراث وفق رؤية تعميمية لا تقف فقط عند حدود عدم تحري الدقة والموضوعية ، ولكنها تصل إلى مرحلة الاصطدام المباشر مع المعايير العلمية التي يجب أن يخضع لها أي نتاج فكري .
إن المتابع لكتابات وأدبيات بعض التيارات التي تشتغل بالفكر ، سيلاحظ إصرار هذه التيارات على النظر إلى التراث بصفته وحدة واحدة يجمع ما بين عناصرها الانسجام والتناغم . وهذا غير صحيح بالمرة ، فما وصلنا من الموروث يحتوي على اتجاهات فكرية وصل الاختلاف بينها حد الخصومة التي خرجت في بعض الوقائع من إطار المساجلة على الورق ، إلى حد ممارسة الاعتداءات المادية المباشرة كالزج في السجون ، كما حدث مع أحمد بن حنبل نتيجة لصراعه الفكري مع المعتزلة ، أو الاعتداءات المعنوية كإحراق الكتب ، كما حدث مع ابن رشد على خلفية صراعه مع تيار النقل والتقليد .
ما وصلنا من الموروث إذن ، يحتوي - في جزء غير قليل منه -على متناقضات لا يمكن أن تلتقي . والتعامل مع الموروث بصفته تراثاً ، ثم طرح التراث بصفته وحدة متجانسة ، هو جناية علمية تهدف إلى الوصول إلى غايتين اثنتين : الأولى هي منح الحياة لجزء ما من الموروث ، على الرغم من أن هذا الجزء لم يعد قادرا على التعايش مع حقائق العلم وروح العصر . أما الثانية فهي التعتيم على الجزء الذي ما زال يمتلك مقومات الحياة ، والذي يمكنه أن ينسجم مع روح العصر ويتفاعل مع معطيات المعرفة الحديثة فيما يخص الفكر ، ويلبي أرقى شروط المعايير الجمالية فيما يخص الفن والأدب .
هناك جزء يتم التعتيم عليه من الموروث كما هو واضح ، والمفارقة هي أن هذا الجزء هو الذي يمتلك إمكانية رفد الهوية الحضارية العربية ببذور التجديد المستمر ، بدلا من الجمود الذي لم ينجح في تحصين جيل الشباب من الوقوع في براثن محاولات الاستلاب الحضاري التي أدت إلى تحويل شخصيتنا القومية إلى (( بزراميط )) يحتوي على أسوأ شيء من كل شيء . وهي نتيجة طبيعية لافتقارنا إلى أدوات التفاعل الإيجابي مع الماضي والحاضر ، الذات والآخر ، بدلا من حالة الانفعال المستسلم الذي يميز علاقتنا بكل الأطراف المذكورة .
تعاملنا مع مصطلح التراث يحتاج إلى إعادة نظر دقيقة .
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store