المكان.. مقهى 'الدماجو' جادة السان جرمان
جلست أرتشف القهوة وأمارس هوايتي في قراءة الصحيفة تارة، وقراءة وجوه الناس دون الحملقة فيهم ، فوقعت على وجه ذلك النادل العربي الذي يخفي كثيراً من البؤس ، يعمل بجد ، يتحدث الفرنسية بطلاقة وأحياناً مايخفي أصوله العربية لأسبابٍ يحتفظ هو بها وأحترمها شخصياً.
نحن العرب نعرف بعضاً جيداً في بلاد الغربة ، قليلاً ما نُقبل على بعض وأحياناً نمثل أننا لم نر بعضاً ، وقد أحس الأديب الكبير البردوني بمعاناة المهاجر اليمني فتخيل حواراً بينه وبين أحدهم في بلاد الغربة فقال :
عرفته يمنياً في تلفته خوف... وعيناه تاريخ من الرمد
من خضرة القات في عينيه أسئلة... صفر تبوح كعود نصف متقد
من أين يا ابني؟ ولايرنووأسأله أدنو قليلاً:صباح الخيريا ولدي
ضميته ملء صدري.إنه وطني يبقى اشتياقي وذوبي الآن يا كبدي
(يسع صباحك) يا عمي أتعرفني؟ فيك اعتنقت أنا قبلت منك يدي
ثم يمضي إلى ماقد يصف خوف المهاجرين البسطاء من الكشف عن أصولهم :
وفوق ذلك ألقي ألف مرتزق في اليوم يسألني. ما لون معتقدي
بلا اعتقاد.. وهم مثلي بلا هدف يا عم ماأرخص الإنسان في بلدي
ولكن كيف وصل هؤلاء إلى هذه البلاد ، بالتأكيد لم يصلوا في طائرة ركاب محترمة .
المشهد الذي لايكاد يغيب عن مخيلتي حتى يعود مرة اخرى..
سفينة متهالكة تشق ظلمة الليل في ذاك البحر الأبيض..
سفينة تحمل أناساً لا يملكون سوى الثياب التي يلبسون, أرواحهم على أكفهم لايدري أحدهم أيصل للساحل الآخر ليلقى مناله أم يلقى ربه أولاً ؟؟
عزيزي المهاجر العربي أو”الباحث عن اللجوء”, كما تشتهي أن تسميك تلك الدول المتحضرة…ترى ماالذي دفعك لمخاطرة كهذه ؟, أهو نفاد صبرك من الطفولة البائسة التي قضيتها بين نفخ الكير وغزل السجاد.. فيما طفل على الساحل الآخر يقرأ كتاباً ويعسكر في الغابات تحت المطر؟.
أم هو شبابك الذي اصطدمت فيه مبادئك بواقع الحياة المر؟, كم من انسان ظلم في بلدك؟ كم من انسان لم تعرف له طريقا خمسة وعشرين عاما لمجرد أنه قال طرفة ً على طاولة مقهى ؟, أم لأنك بعد أن حملت شهادة الهندسة مالبثت الا أن عدت للورشة التي قضيت فيها طفولتك؟
أم لأنك رأيت معاملة الساحل الآخر لمن تسلل اليهم…معطف للبرد, علاج قبل أي سؤال… بيت يؤويهم خلال يوم أو اثنين.. مبلغ مقطوع يصرف بانتظام بلا امتنان.
بلاد استبدلت فيها المدارس كلمة “رسوب” بكلمة “نجاح مؤجل”, بلاد يصبح الكفيف فيها وزيراً.
تلكم التربة لاما سميت وطناً ينبت جوعا ً وعراءً *
*الجواهري