Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

المصالح الإستراتيجية : المشروع قبل الأيديولوجيا

بالنسبة للدول ، ليس هناك ما يوازي المصالح ، وخصوصاً المصالح الاستراتيجية ، من حيث الأهمية .

A A
بالنسبة للدول ، ليس هناك ما يوازي المصالح ، وخصوصاً المصالح الاستراتيجية ، من حيث الأهمية .
كل الدول تقريباً تمتلك مشروعاً قومياً يهدف إلى امتلاك أكبر قدر ونوع ممكن ، من مفاتيح التأثير ، وربما السيطرة . وهذا يعني أن كل الدول تمنح مصالحها ، وبالذات الاستراتيجية منها ، الأولوية على كل ما عداها .
حتى الدول العقائدية كالاتحاد السوفييتي السابق وكمصر خلال حقبة الستينات والسبعينات ، لم تكن تقدم التزاماتها الأخلاقية ، أو التزاماتها الأيديولوجية إن شئت الدقة ، على مصالحها الاستراتيجية التي عادة ما تصب في خانة المشروع . هناك دائماً مشروع ما ، وكل ما يؤدي إلى تحقيق المشروع مهما بدا متعارضاً مع ما تفرضه الأيديولوجيا من التزامات ، يظل مشروعاً ، بل ومطلوباً أيضاً .
الاتحاد السوفييتي مثلاً لم يرتبط بعلاقة تحالف استراتيجي مع الصين الشعبية رغم أن الحزب الحاكم في البلدين كان هو الحزب الشيوعي ! الأمر لم يقتصر على ذلك فحسب ، بل إن العلاقة بين البلدين تميزت طوال تاريخها ، بالتوتر وعدم الثقة .
بالمقابل فإن الاتحاد السوفييتي ارتبط بعلاقة تحالف استراتيجي مع مصر عندما كانت الأخيرة تمتلك مشروعاً قومياً ، ووقع معها معاهدة صداقة ، واستمر في دعمها سياسياً وعسكرياً رغم كل ما لحق بشيوعيي مصر من اعتقال وإقصاء من المشهد العام في ذلك الوقت .
أيضا فإن حالة العداء الأيديولوجي بين الصين باعتبارها إحدى أعظم القوى التي تتبنى الشيوعية ، وبين أمريكا باعتبارها القوة الرأسمالية والإمبريالية الأعظم في العالم ، لم يحل بين الدولتين وبين المضي قدماً في سياسة التقارب التي ابتدأت في عهد الرئيس الأمريكي - لاحظ أنه كان جمهورياً - ريتشارد نيكسن ، عبر تنظيم مباريات في لعبة تنس الطاولة (( البينج بونج )) .
الأمثلة لا تنحصر فيما تم إيراده عبر السطور السابقة ، فالدولة الدينية في إيران مثلا ، والتي تعتبر واحدة من أكبر النماذج للدول العقائدية في العالم اليوم ، اتخذت عقب نهاية حقبة الحرب الباردة واستقلال الجمهوريات السوفييتية الخمس عشرة ، موقفاً داعماً لجمهورية أرمينيا التي يدين سكانها بالديانة المسيحية ، في حربها ضد جمهورية أذربيجان التي يدين معظم سكانها بالإسلام وينتمون للمذهب الشيعي الإثني عشري ، الذي تنتمي إليه إيران.
ما أريد أن أقوله هو أن الالتزام الأيديولوجي حتى عند أكثر الدول عقائدية ، لا يعادل المصالح الاستراتيجية النابعة من المشروع . حتى المشروع نفسه ، يصعب فصله عن المصالح الاستراتيجية للأمة ، بل إنني لا أتجاوز الحقيقة لو قلت بأن المشروع يستقي شكله النهائي بناء على ما تمليه المصالح الاستراتيجية ، وليس العكس . القصة قصة مصالح عليا للدول والأمم .. والدول والأمم ، وخصوصا تلك التي تمتلك ذاكرة إمبراطورية ، هي دول قومية في المقام الأول . ولعل هذا ما يفسر حرص الروس منذ أن سطع نجم بوتين ، على استعادة سيطرة روسيا على الجمهوريات السوفييتية السابقة ، وعلى السعي للاستيلاء على تركة الاتحاد السوفييتي السابق ، وملء فراغه، والاستمرار في أداء نفس دوره المنافس لأمريكا وباقي القوى الرأسمالية الغربية ، رغم أن بوتين ليس شيوعياً ولا يريد لبلاده أن تعود للحقبة الشيوعية . نفس الشيء ينطبق على جوزيف ستالين المؤسس الحقيقي لاتحاد الجمهوريات السوفييتية ، والذي كانت سياساته الدولية في حقيقة الأمر ، امتداداً لطموحات قياصرة روسيا الذين سبقوا قيام الدولة الشيوعية . وهو ما يفسر نزوع بعض إعلاميي الغرب لإطلاق لقب قيصر روسيا على كل أمين عام للحزب الشيوعي السوفييتي ابتداء بستالين وانتهاء بقسطنطين تشيرنينكو .. كما أنه يفسر إطلاق نفس اللقب على الرئيس الروسي الحالي ، فلاديمير بوتن .
الأمم التي تمتلك خبرات إمبراطورية سابقة ، لديها حقائق تاريخية تنبع من ذاكرتها الضاربة في القدم . هذا هو سر شعبية بوتين الذي أتى ليملأ فراغاً تسبب في وجوده الأمين العام الأخير للحزب الشيوعي السوفييتي ، ميخائيل جورباتشوف ، ومن بعده جميع رؤساء روسيا الاتحادية الذين سبقوا بوتين .
حقائق التاريخ هي التي تحدد المصالح الاستراتيجية للدول ، والمصالح الاستراتيجية هي التي تحدد شكل المشروع .
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store