مصدر الحزن أن حياة البطل انتهت وأصبح في ذمة الله. ودوافع الفرح لأنه عاش مناضلًا، وفارق الحياة بعد أن حقَّق أحلامه وأحلام مواطنيه، وداس على سياسة الفصل العنصري، ونال مجد الشهامة والتسامح بامتياز.
مات نيلسون مانديلا الرجل العظيم، الذي قضى معظم حياته مناضلًا من أجل الحرية، وقضى ثلث سنوات عمره في زنزانة بها من القسوة والاضطهاد كل ما توفر للعنصرية البغيضة؛ التي أحكمت قبضتها على جنوب إفريقيا خلال ثلاث مائة وأربعين عامًا. استعبدت البشر ونهبت خيرات البلد وتعدَّت على كل القيم الإنسانية.
ورغم ذلك فإن تلك الممارسات لم تُحطِّم إرادة الأحرار، بل دفعت بهم في كل مكان من العالم لمناهضة العنصرية، وأيقظت الضمير العالمي في النصف الثاني من القرن الماضي بشكلٍ لم يسبق له مثيل.
منظمة المؤتمر الوطني الإفريقي ANC African National Congress التي ينتمي إليها مانديلا، كانت حاضرة في كل مكان من العالم وعلى وجه الخصوص في العواصم الغربية وجامعاتها واتحاداتها العمالية.
بريطانيا وهولندا كانتا من أكبر الدول الاستعمارية، والراعية للنظام العنصري في جنوب إفريقيا، وفي القارة السمراء بصفة عامة، وفي غيرها من مناطق العالم أيضًا. وقد مارس المحتلون البيض أبشع أنواع القسوة والتعذيب ضد السكان الأصليين، مستغلّين اختلاف أصولهم العرقية ولون بشرتهم السوداء وتخلفهم المادي، وسخّروا كل قواهم لاستنزاف خيرات تلك الأرض التي تزخر بالمعادن الثمينة، وغيرها من الثروات الطبيعية. وقد اعتمد الأفريكانو البيض أسلوب التطهير العرقي والتهجير ما استطاعوا، مثلما فعلت وما زالت الصهيونية العالمية منذ ما يزيد على ستين عامًا بالشعب الفلسطيني.
خلال ثلث قرن من الزمن، قاد نيلسون مانديلا ورفاقه نضالهم من داخل الزنزانة وخارجها، حيث كانوا يُحرِّكون الجماهير والأنصار في الداخل والخارج بإصرارٍ تام، وبدون تنازلات، كما كان النظام العنصري يريد لهم.
في قلب لندن «عاصمة الإمبراطورية البريطانية» كان مقر -بيت- جنوب إفريقيا South Africa House المطل على ميدان الطرف الأغر هدفًا للمظاهرات والاحتجاجات من قبل طلاب الجامعات والتنظيمات العمالية المناهضة للعنصرية.. وقد كان البوليس البريطاني يحمي ذلك المقر ويُوليه عناية خاصة، ويبعد المتظاهرين عنه بشتى وسائل القسوة والعنف.
ومن أبرز الصفات التي تميز بها مانديلا وضوح الرؤية والثبات على المبادئ وصلابة المواقف التي حصّنته ضد محاولات الاختراق التي مورست عليه خلال فترة اعتقاله، وحتى الساعات الأخيرة قبل إطلاق سراحه.
بعد خروجه من المعتقل ظهر مانديلا المنتصر رافعًا رأسه، ليسمع له المؤيدون والخصوم، ويقبلوا حل التعايش السلمي لمن أراد البقاء من البيض كأقلية تحكمها أغلبية سمراء، وجنّب وطنه ومواطنيه مأزق الانتقام بسمو إنساني رفيع.
وعن المسألة الفلسطينية -التي لم تَجُدْ عليها الظروف بـ»مانديلا عربي»- كان موقفه ثابتًا ضد الاضطهاد والفصل العنصري، وضد سياسة الصهاينة العنصرية، حيث لا مساومات على المبادئ عند مانديلا.
كما قاد بلاده لمعادلة التعايش السلمي والصفح عن تجاوزات الماضي.. وبدأ حملة كتابة الدستور والانتخابات، وأصبح أول رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية لجنوب إفريقيا الحرة من العنصرية والاستعمار.
ولم يكتفِ البطل بذلك، بل قرر ألا يبقى في كرسي الحكم سوى فترة واحدة، ليترجَّل ويُفسح المجال لغيره، ليقود البلاد، وبذلك يضرب مثلًا رائعًا، ويُجسِّد مفهوم ضرورة تداول السلطة بالطرق الديمقراطية.
ورغم كل التحديات التي تواجه دولة جنوب إفريقيا في الوقت الراهن.. فقد انتصرت على العنصرية، وعزَّزت مبدأ التعايش السلمي.. وبدأت مرحلة البناء وتحقيق أحلام ذلك الشعب، ليكون في المستوى الذي حلم به بطلهم نيلسون مانديلا، وها هم يحزنون ويفرحون في وقتٍ واحد أمام منزله، وهم يُودعونه إلى مثواه.
نذكر «نيلسون مانديلا» لأنه رَجُل عظيم، ولأن في حياته وممارساته عِبَر عظيمة، فما أحوج الأمة العربية إلى التسامح والتعايش، والسمو الإنساني الرفيع.
Salfarha2@gmail.com
الحزن والفرح في رثاء مانديلا البطل
تاريخ النشر: 12 ديسمبر 2013 03:24 KSA
مصدر الحزن أن حياة البطل انتهت وأصبح في ذمة الله. ودوافع الفرح لأنه عاش مناضلًا، وفارق الحياة بعد أن حقَّق أحلامه وأحلام مواطنيه، وداس على سياسة الفصل العنصري، ونال مجد الشهامة والتسامح بامتياز.
A A