Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

«مَسغَبةٌ أخلاقيةٌ»

u00abu0645u064eu0633u063au064eu0628u0629u064c u0623u062eu0644u0627u0642u064au0629u064cu00bb

في مقالةٍ كَتبَهَا الدكتور عبدالله البريدي، بعنوانِ: "هلْ نعيشُ (بِطنةً دينيَّةً)، و(مَسغبةً أخلاقيَّةً)؟" تدورُ في جوهرِهَا حولَ افتقارنَا إلى جرعاتٍ مكثَّفةٍ متواصلةٍ من "التَّخلقِ"، بما يتلاءمُ

A A

في مقالةٍ كَتبَهَا الدكتور عبدالله البريدي، بعنوانِ: "هلْ نعيشُ (بِطنةً دينيَّةً)، و(مَسغبةً أخلاقيَّةً)؟" تدورُ في جوهرِهَا حولَ افتقارنَا إلى جرعاتٍ مكثَّفةٍ متواصلةٍ من "التَّخلقِ"، بما يتلاءمُ معَ جميعِ الشَّرائحِ الاجتماعيَّةِ والعمريَّةِ، مع ضرورةِ التَّوسلِ بالعلومِ الاجتماعيَّةِ والإنسانيَّةِ، واستخدامِ أدبياتِهَا، وأدواتِهَا المنهجيَّةِ الدَّقيقةِ في عمليَّاتِ التَّحليلِ والتَّشخيصِ والقياسِ للمشكلاتِ والواقعِ، والبلورةِ والتَّطويرِ للحلولِ والعلاجاتِ.
وعطفًا على ذلكَ سأستقطعُ الكثيرَ من المقالِ المشارِ إليهِ، باعتبارِهِ دعوةً صادقةً وكاشفةً عن خللٍ كبيرٍ يعتورُ مجتمعَنَا، بعدَ أنْ أصبحنَا آخِرَ الرَّكبِ في مَا يصدرُ عنَّا من أخلاقٍ، وسلوكٍ، وممارسةٍ، فنحنُ نتبارَى بـ(القولِ)، وسردِ المُثلِ؛ ولكنْ سرعانَ مَا يتبدَّلُ الحالُ من قولٍ محمودٍ إلى فعلٍ مذمومٍ.
يؤكِّدُ ذلكَ مَا قالَ بهِ الدكتور البريدي بالقولِ: "مجتمعُنَا متورِّطٌ بـ(مسغبةٍ أخلاقيَّةٍ)، وبعبارةٍ أوضَح أقولُ بأنَّ الأخلاقَ لدينَا مهترئةٌ جدًّا، وبناءَهَا متضعضعٌ".
يستشهدُ البريدي بقصةِ الصِّبيةِ الذينَ جاءُوا إلى صلاةِ الجمعةِ مبكِّرينَ، فأخرجَهُم الرسولُ -عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ- كيْ يلعبُوا في الفضاءِ الطَّبيعيِّ الخارجيِّ بعضَ الوقتِ، ثمَّ يعودُوا إلى الصلاةِ.
ويعلِّقُ علَى ذلكَ بالقولِ: "أفهمُ من هذَا النهجِ القويمِ ضبطَ منسوبِ التَّدينِ في نفوسِ النَّاسِ، من خلالِ توجيهِ فعلِ التَّدينِ بمَا يتلاءمُ معَ فطرِهِم السَّليمةِ التِي خلقَهم اللهُ عليهَا، ومن ذلكَ: اللعبُ، والمرحُ، والتَّعرفُ على الطَّبيعةِ، واكتشافُهَا، والتَّدينُ لهُ وقتُهُ وقدرُهُ، واللهُ تعالَى في غنىً عن عبادِهِ، وعن عباداتِهِم، والعبرةُ بنوعيَّةِ العبادةِ لا بكمِّيتِهَا، كيفَ لاَ والخليفةُ الرَّاشدُ أبو بكرٍ الصِّديق -رضيَ اللهُ عنهُ- لمْ يسبقْ بقيةَ الصَّحابةِ الكرامِ -كمَا وردَ في الحديثِ- إلاَّ "بمَا وقرَ في قلبِهِ"، وهُو: الإيمانُ.
إنَّ الخطابَ الدِّينيَّ - بحسبِ البريدي- قدْ فشلَ بشكلٍ جليٍّ في بناءِ منظومةٍ أخلاقيَّةٍ صلبةٍ لهَا انعكاساتٌ حقيقيةٌ وملموسةٌ في الواقعِ المعيشِ؛ بلْ نراهُ يفشلُ حتَّى في التَّنظيرِ المجرَّدِ، فالتَّحليلُ النَّوعيُّ والكميُّ لهذَا الخطابِ يوصلًكَ إلى نتيجةٍ مؤسفةٍ، تؤكِّدُ ضآلةَ عنايتِهِ بمسألةِ الأخلاقِ من حيثُ الطَّرحِ والتَّبني في الخطبِ، والدُّروسِ، ومحاضنِ التَّربيةِ، ونحوَ ذلكَ، مع ضمورِ البعدِ الفلسفيِّ في التَّعاطِي مع هذِه المسألةِ، ممّا يسطِّحُ كثيرًا هذا الخطابَ في هذِه المسألةِ، بخلافِ مسائلَ أخْرَى يعدُّها أساسيةً كمسائلِ العقيدةِ ونحوهَا، حيثُ يتوسَّعُ في شرحِهَا ويتوسَّلُ في علمِ الكلامِ والمنطقِ، ويلجأ إلى أدواتهمَا في التَّنظيرِ والتَّناولِ العلميِّ التَّفصيليِّ.
ولذَا، فإنَّ هذَا الخطابَ يملأُ أوعيةَ وجدانِ المسلمِ بتفريعاتٍ، وتشقيقاتٍ منطقيَّةٍ، كلاميَّةٍ، فرعيَّةٍ لا يحتاجُ إليهَا المسلمُ العاديُّ، أو غيرُ المتخصِّصِ، وأغلبُ كلامِهِم ينحصرُ -في الحقيقةِ- في مَا يمكنُ أنْ يُسمَّى بـ"تاريخِ العقيدةِ"، ومن ذلكَ الحديثُ عن الفِرقِ، وآرائِهم، والرَّدِ عليهِم، ونحوَ ذلكَ، مع الإشارةِ إلى "انقراضِ" بعضِ هذِه الفرقِ أصلاً، حيثُ لا وجودَ حقيقيَّ لهَا.
وربَّما احتجَّ البعضُ بكثافةِ عنايةِ القرآنِ الكريمِ بالمسائلِ العقديةِ في مهدِ الرِّسالةِ، والأمرُ في ذلكَ واضحٌ، حيثُ إنَّ الرِّسالةَ نزلتْ علَى قومٍ مشركِينَ، بخلافِ واقعِ المجتمعِ اليومَ، فهُو موحَّدٌ مؤمنٌ.
أقطعُ بأنَّهُ -والكلامُ للبريديّ- لا يمكنُ لنَا أنْ ننهضَ بالمجتمعِ بموجةِ "تديينِ النّفوسِ" دونَ "تخليقِهَا" بالخلقِ القويمِ، كمَا أنَّهُ لا يمكنُنَا تجاوزُ المراحلِ الصَّعبةِ والأزماتِ بمثلِ هذَا اللونِ من "التَّدينِ الطقوسيِّ"، فضلاً عن بناءِ ذواتِنَا في ميادِين الإنتاجِ والعطاءِ، والتَّعلمِ، والإبداعِ، والحوارِ، والمثاقفة. والملموسُ في المشهدِ ينبئُ عن "تخمةٍ دينيةٍ" مقابلَ "تضوّر أخلاقيٍّ مريعٍ"، وذلكَ جرّاء سطحيةِ فهمِ الإسلامِ، وجوهرِهِ، ومراميهِ، ورافعاتِهِ الحضاريةِ.
ومن تجلياتِ ذلكَ "التَّجاهلِ العمليِّ" للنصوصِ الكثيرةِ التي تؤكِّدُ علَى محوريةِ الأخلاقِ في حياةِ النَّاسِ وتحضرِهِم، كالنَّصِّ الصَّريحِ الذِي يوضِّحُ جانبًا من جوانبِ موضوعِنَا، والذِي ينذرُ من مغبةِ التَّدينِ بلاَ تخلّقٍ، ونصّه: "أتدرُونَ مَا المفلسُ؟ قالُوا: المفلسُ فينَا مَن لا درهمَ لهُ ولا متاعٌ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتِي مَن يأتِي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتِي وقدْ شتمَ هذَا، وقذفَ هذَا، وأكلَ مالَ هذَا، وسفكَ دمَ هذَا، وضربَ هذَا، فيعطى هذَا من حسناتِهِ، وهذَا من حسناتِهِ فإنْ فنيتْ حسناتُه قبلَ أنْ يقضيَ ما عليهِ، أُخذَ من خطاياهم فطُرحتْ عليهِ ثم طُرحَ في النارِ". مَا الذِي أدخلَهُ النَّارَ؟ ليسَ انخفاض تدينِهِ من جهةِ المعتقداتِ والطقوسِ والشعائرِ، وإنَّما من جهاتِ الأخلاقِ والسُّلوكِ. أليسَ كذلكَ؟!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store