علَى امتدادِ التَّأريخِ الإسلاميِّ، ولغةُ الدَّمِ والتَّكفيرِ والتَّفسيقِ حاضرةٌ؛ فضلاً عمَّا سواهُ من انقساماتٍ، وتصنيفاتٍ، وتمذْهبٍ ما أَنْزلَ اللهُ بهَا من سلطانٍ.
وفي العصرِ الحديثِ تتبدَّى لنَا الكثيرُ من تلكَ اللُّغةِ بأساليبَ متنوِّعةٍ وآليَّاتٍ مختلفةٍ تسيرُ علَى ذاتِ الخُطى، متَّبعَةً ذاتَ النَّهجِ، ولكنْ بطرقٍ أكثر دمويَّةٍ؛ فحضرَتِ التَّفجيراتُ، واتَّسعَتِ الاغتيالاتُ، وتنوَّعَتِ التَّحزباتُ بمَا يتناسبُ ولغة العصرِ، وأنماط تفاعلِهِ مع كلِّ تلكَ الانقساماتِ، وكلُّ ذلكَ يشِي إلى مدَى عمقِ الخللِ الذي يكتسِي الخطابَ الدِّينيَّ، ومدَى تهافتِ مَن يقرأ مفهومَ الدِّينِ والتَّدينِ.
دعُونَا نتأمَّلْ هذا الحديثَ تأمُّلاً حصيفًا واعيًا بعيدًا عن كلِّ تأويلٍ يخرجُهُ عن سياقِهِ الواردِ فيه، ولنتأمَّل جيَّدًا بساطةِ ذلكَ الأعرابيِّ مع عفويتِهِ، وهُو في حضرةِ رسولِ اللِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلّم، ولنلاحظْ مدَى عمقِ ما يكتنزُهُ ذلكَ الأعرابيُّ من تعقُّلٍ وكياسةٍ: "حدَّثنا محمَّد بنُ إِسماعيل، حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ عبدالحميد الكُوفيّ، حدَّثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: كُنَّا نتمنَّى أَنْ يأتِي، الأعرابيُّ العاقلُ فيسألُ النّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّم ونحنُ عندَه فَبَيْنَا نحنُ علَى ذلكَ إِذْ أتاهُ أعرابيٌّ فَجَثَا بينَ يدَي النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ فَقَال: يا محمَّدُ إِنَّ رسُولَكَ أتانَا فزعمَ لنَا أنكَ تزْعمُ أنَّ اللهَ أرسلكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ "نَعَمْ". قَالَ: فبالَّذي رفعَ السَّماءَ، وبسطَ الأرضَ، ونَصَبَ الجبالَ آللهُ أرْسلَكَ؟ فقَال النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ "نعمْ". قَالَ فَإِنَّ رسُولَكَ زعمَ لنَا أنَّكَ تزعُمُ أنَّ علينَا خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ. فقالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "نعمْ". قال: فَبِالَّذِي أَرسلَكَ آللهُ أمركَ بِهذَا؟ قَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ "نعمْ". قَالَ: فإِنَّ رسُولَكَ زعمَ لَنا أنَّكَ تَزعمُ أَنَّ علينَا صومَ شهرٍ في السَّنةِ. فَقَال النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "صَدَقَ". قَال: فَبِالَّذِي أَرسلَكَ آللهُ أمركَ بِهذَا؟ قَال النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "نعمْ". قَال: فإِنَّ رسُولَكَ زعمَ لَنَا أنَّكَ تَزْعمُ أَنَّ علَينَا في أموالِنَا الزَّكَاةَ. فقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمِ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرسلَك آللهُ أمركَ بِهذَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "نعمْ". قال: فَإِنَّ رسُولَكَ زعمَ لنَا أنَّكَ تزعمُ أنَّ علينَا الحجَّ إِلَى البيتِ مَن استطاعَ إليهِ سبِيلاً؟ فقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "نعمْ". قَال: فَبِالَّذِي أَرسلَكَ آللهُ أَمركَ بِهذَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ: "نعمْ". فقالَ: والذِي بعثكَ بِالحقِّ لاَ أدعُ مِنهُنَّ شيئًا، ولا أُجَاوِزُهُنَّ. ثُمَّ وَثَبَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ صَدَقَ الأَعْرَابِيُّ دَخَلَ الْجَنَّةَ".
وقصرُ القولِ: لقدْ حملَ لنَا تراثُنَا الإسلاميُّ الكثيرَ من التَّأويلاتِ والقراءاتِ الخاطئةِ في فَهمِ النَّصوصِ، ومن ثمَّ أُسْقطت على الواقعِ، ثمَّ تناسلتْ تلكَ التأويلاتُ وتعدَّدتْ تلكَ القراءاتُ، فأصبحَ الكلُّ يخوضُ فيهَا بمَا يشتهِي ومَا لا يشتهِي بعلمٍ وبغيرِ علمٍ؛ حتَّى أصبحتْ أضابيرُ تراثِنَا مثخنةً بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، كثيرُهَا ضارٌّ شاردٌ، وقليلُهَا نافعٌ مستحكمٌ.
«إِنْ صَدَقَ الأَعْرَابِيُّ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
تاريخ النشر: 31 يناير 2014 04:19 KSA
علَى امتدادِ التَّأريخِ الإسلاميِّ، ولغةُ الدَّمِ والتَّكفيرِ والتَّفسيقِ حاضرةٌ؛ فضلاً عمَّا سواهُ من انقساماتٍ، وتصنيفاتٍ، وتمذْهبٍ ما أَنْزلَ اللهُ بهَا من سلطانٍ.
A A