إنَّ علَى المجتمعِ أنْ يُعيدَ قراءةَ نفسِهِ قراءةً تأخذُ أبعادًا تُحيطُ بالجرمِ، لا بفاعلِ الجرمِ نفسهِ.
وإنَّ المجتمعَ ينسَى نفسَهُ، وكثيرًا ما ينسَى.. فمَثَلهُ كمثلِ الأبِ الذي لا يعرفُ خيبةَ ابنِهِ، وصعلكتَهُ، وطيشَهُ إلاَّ ساعةَ الإخفاقِ، وحينَ وقوعِ الجريرةِ، وتمثّل السّوءة؛ ونسَي، أو تناسَى دورَهُ الذي يجبُ: رعايةً، واهتمامًا، ومتابعةً. وأنَّى له معرفةُ كلَّ ذلكَ الواجبِ وهُو ساهٍ.. لاهٍ..غائبٌ!! لا يعرفُهُ إلاَّ تلكَ السّاَعةِ: خيبةً، وإخفاقًا، وارتكابَ جريرةٍ.
وإنَّ الجراءةَ بالرّذيلَةِ -كمَا هُو الحالُ فيمَا يُبث في مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ-، والاعترافَ بالسّوَءةِ- صَغُرتْ أو كَبُرتْ- لا تخرجُ عبثًا من فاعلِهَا بلا مقدماتٍ حتّى تبرزَ إلى السَّطحِ؛ ثمَّ تصبحُ بعدئذٍ حكايةً تُحْكَى فتُروَى؛ بل إنَّها خارجةٌ من أرضٍ صالحةٍ للإنباتِ، وفاعلُهَا ناطقٌ حيٌّ بلسانِ المجتمعِ، لا أقولُ مدارسهُ، ومعاهدهُ، وجامعاتهُ، ومؤسساتهُ فقطْ؛ بل من كلِّ ذلكَ بسببٍ بلا استثناءٍ؛ بدءًا بالأسرةِ الصّغَيرةِ، وليسَ انتهاءً بالمجتمعِ الكبيرِ.
فإذا أقْررّنا بذلكَ، وبانتْ علاماتُ الخطأِ الذِي لا يُعْفَى منهُ المذنبُ؛ فضلًا عن المجتمعِ بأسرِهِ، فقدْ وجبَ علينَا أفرادًا كنّا أو مؤسساتٍ أن نُعيد تنظيمَ أنفسنَا، وترتيبَ أوراقِنَا بينَ الحينِ والحينِ، فمَا أجملنا ونحنُ نُرسلُ نظراتٍ صادقةً ناقدةً في جوانبنَا؛ لنتعرَّفَ على عيوبِنَا وآفاتِنَا ومواجعِنَا، ونقرَّ بتبعاتِ أخطائِنَا، وسوءاتِنا.
وما أسعدنَا ونحنُ نُعيدُ تصنيفَ أولوياتِنَا الأخلاقيَّةِ والسلوكيَّةِ، ونتحسَّسُ مَوَاطِنَ الخللِ فنستعجلَ العلاجَ النّاجعََ لهَا. ومَوَاطِنَ الصَّلاحِ فنهبُّ جميعًا لتعزيزِهَا وتقويتِهَا.. وما أسعدهُ من مجتمعٍ وهُو ينشرُ أدواتِ العلاجِ على المدَى القريبِ والبعيدِ؛ ليتخلَّصَ من الزَّلاتِ التي تُزرِي بِهِ.
ففِي كلِّ المجتمعاتِ بلا استثناءٍ مَوَاطِنُ خللٍ مرْتَبكةٌ وهزيلةٌ أخلاقيًّا وسلوكيًّا!! وفي كلِّ المجتمعاتِ بواعثُ فوضَى حاضرةٌ بأسبابِهَا البائنةِ أو المطمورةِ!!
أليسَ من واجبِ الفضلاءِ والعقلاءِ تصنيفُ هذِه المهازلِ والسلوكيَّاتِ الخاطئةِ وعلاجُهَا، والتَّحذيرُ منهَا؟!
أليسَ من الواجبِ الَّلازبِ معرفةُ أسبابِ هذه الفوضَى الَّّلاأخلاقيَّةِ، والبحثُ عن علاجٍ مثمرٍ لهَا؟!
ألا يستحقُّ مجتمعُنَا أن يتعهَّدَهُ أولو الألبابِ شأنًا شأنًا، وخللًا خللًا بين الفينةِ والفينةِ؛ ليروا ما يعتريهِ من اضطّرابٍ، وما لحقهُ من سوءةٍ؛ فيسعَى الصّاَدقُونَ لنفيهِ وإزالتهِ، وبعثِ الجديدِ النَّافعِ مثلمَا تُنفَى القمامةُ عن الساحاتِ الطَّاهرةِ !!.
أليسَ من الواجبِ أن نراجعَ الأشواطَ التي قطعنَاهَا إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا؛ كي نسقطَ بالسُّلوكِ الحقِّ أدواتِ التَّوازنِ، وبساطِ الاعتدالِ كلَّمَا لاحَ في الأفقِ بوادرُ خللٍ وعوجٍ؟!
إنَّ الكيانَ الاجتماعيَّ قلَّمَا يبقَى متماسكًا في ظلِّ حدِّةِ الاحتكاكِ والتَّواصلِ الكونيِّ، ووجودِ صنوفِ الشَّهواتِ والمغرياتِ، فإذَا تُركَ "لعواملِ الهدمِ تنالُ منهُ فهِي آتيةٌ عليهِ لا محالةَ، وعندئذٍ تنفرطُ المشاعرُ العاطفيَّةُ والعقليَّةُ، كما تنفرطُ حبَّاتُ العقدِ إذا انقطعَ سلكُهُ".
إنَّ من ضروراتِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ السويَّةِ العملَ الدَّائمَ لتنظيمِ هذِه الحياةِ، وإحكامِ الرِّقابةِ عليهَا.
وإنَّ علَى المجتمعِ السويِّ أنْ ينظرَ إلى كلِّ مجاهرٍ بسوءَتِه علَى أنَّه خللٌ لا في المجاهرِ وحدَه؛ بلْ في البنيةِ الاجتماعيَّةِ بأكملِهَا.
وإنَّ علَى المجتمعِ أنْ يحزنَ أشدَّ الحزنِ لأولئكَ المجاهرينَ بالسَّوءةِ والرَّذيلةِ؛ لأنَّ الجرمَ، والسوءةَ التي كشفتْ تنبئُ عن أنفسٍ مريضةٍ تحتاجُ إلى علاجٍ ينالُ البنيةَ الاجتماعيَّةَ كاملةً.
وإنَّ علَى المجتمعِ أنْ يستأنفَ النَّظرَ في هذا الخللِ لاَ من زاويةِ التّشخيصِ؛ بلْ من عدّة زوايَا تغوصُ في عمقِ الخللِ بحثًا عن علاجٍ ناجعٍ حتّى يصبحَ مجتمعًا سويًّا لا أقولُ ملائكيًّا؛ ولكنَّه بشريٌّ يعتريهُ ما يعترِي البشريَّةَ من الهنَّاتِ والزَّلاتِ.
هنَا يصحُّ القولُ إنَّ حوادثَ المجاهرةِ بالسوءةِ من خلالِ مواقعِ التواصلِ قدْ تكونَ مدعاةَ خيرٍ لنَا في أحوالِنَا الاجتماعيَّةِ والأخلاقيَّةِ؛ كي نثوبَ إلى جادَّةِ الطَّريق، تنقيبًا وتعهدًا بما يصوننَا من العللِ والأمراضِ.
وإنَّ النّاظرََ بعينِ الْفَحصِ لا عينَ الشماتةِ لا ينظرُ إلَى صاحبِ الجرمِ؛ بلْ إلى النَّبتةِ النَّتنةِ التي نبتتْ في مجتمعٍ غافلٍ هو في أمسِّ الحاجةِ إلى الرِّعايةِ والتَّصحيحِ والتَّعهدِ؛ يُنْبئنَا عنهُ بصدقٍ بعضُ سوءاتٍ..!!
المجاهرة بالسَّوءة ..!!
تاريخ النشر: 28 مارس 2014 03:46 KSA
إنَّ علَى المجتمعِ أنْ يُعيدَ قراءةَ نفسِهِ قراءةً تأخذُ أبعادًا تُحيطُ بالجرمِ، لا بفاعلِ الجرمِ نفسهِ.
A A