بينَ الحينِ والآخرِ تبرزُ مواقفُ تتبدَّى فيهَا روحُ التَّعصبِ بكلِّ أشكالِهِ، يظهرُ كلُّ ذلكَ بصورٍ متعدَّدةٍ وألوان ٍمختلفةٍ، سواء بصورةٍ بارزةٍ حيَّةٍ أمْ بصورةٍ متخفِّيةٍ مبطَّنةٍ.
صحيحٌ أنَّ التَّعصبَ أيًّا كانَ نوعهُ باتَ خافِتَ الصَّوتِ؛ فضلاً عن ارتخاءِ نبراتِهِ كشعاراتٍ تُقالُ، أوْ أقوالٍ يُعلنُهَا البعضُ؛ ولكنْ لمَّا يزلْ مكمنُ الخوفِ حاضرًا من وجودِهِ كفكرٍ أو مفاهيمَ، وهُو يستظلُّ بممارساتٍ وظيفيَّةٍ، أو اجتماعيَّةٍ، أو إعلاميَّةٍ..!!
أنَا هُنَا لا أُقدِّمُ وعظًا، ولا كلامًا إنشائيًّا يسعَى لشرحِ مفاهيمِ التَّعصبِ مع تفهُّمِي لحساسيَّةِ هذِه القضيَّةِ التِي باتتْ مستكنَّةً في مفاصلِ بعضِ النَّاسِ حتَّى النُّخاعِ؛ ولكنَّني أتحسَّسُ مكمنَهُ في بعضِ شؤونِنَا الصَّغيرةِ والكبيرةِ علَى حدٍّ سواءٍ، فبعضُ القومِ نشأَ وترعرعَ وفي روحِهِ الباطنةِ منزعٌ للعصبيَّةِ، وبينَ جنبَيهِ خفايَا سكونِهَا إمَّا للمنطقةِ التي تحتويه، أو لعائلتِهِ التي تؤويه، أو لقبيلتِهِ التي تظلّه، ما قدْ تظهرُ في سياقِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ، كمَا قدْ تظهرُ في مسالكِ أقواتِ النَّاسِ ومعايشهِم الوظيفيَّةِ.
لقدْ استطاعَ الرَّسولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يضعَ حدًّا فاصلاً بينَ القولِ بفضيلةِ النَّسبِ، أو القبيلةِ، أو اللَّونِ وبينَ فضيلةِ التَّقوَى ذلكَ المرتكزُ الأعلَى والأعمقُ كمَا هُو حالُ القرآنِ الكريمِ وهُو يستبطنُ حالَ أمَّةِ هذَا الكونِ في مجملِهِ عندمَا قالَ تعَالَى: «إنَّ أَكْرَمَكُم عندَ اللهِ أتْقَاكُم»؛ عطفًا على: «وَجَعَلْنَاكُم شُعَوبًا وقَبَائلَ لِتَعَارَفُوا».
فليسَ بالغريبِ أنْ نجدَ في ثنايَا السِّيرةِ النَّبويَّةِ الكثيرَ منْ المواقفِ تنبذُ هذِه الرُّوحَ الفئويَّةَ والاستعلائيَّةَ كمَا هُو قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: «إنَّكَ امرؤٌ فيكَ جاهليَّةٌ»، والنَّاسُ -آنذاك- علَى عهدٍ قريبٍ بسوءَةِ الجاهليَّةِ، كمَا هُمْ علَى عهدٍ قريبٍ بنورِ إسلامِهِم.
فأيُّ جاهليَّةٍ قالَ بهَا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنْ لمْ تكنْ تلكَ المستبطنة في عقولِ بعضِ مَن غسلَهُم الإسلامُ، وجعلَ منهُم أمَّةَ الفتحِ، كمَا جعلهُم أمَّةَ الخُلقِ والتَّقوَى؛ ولكنَّهَا العقليَّةُ الباردةُ التِي تستعصمُ بالجهالةِ في بعضِ المواقفِ، إذْ ليسَ مقصدُ النَّبيِّ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ صورةَ الجاهليَّةِ في معنَاهَا التَّعبديِّ كعبادةِ الأوثانِ، والتَّقربِ لَّلاتِ والعزَّى؛ ولكنَّهَا صورةٌ أخْرَى تحضرُ كثيرًا على امتدادِ التَّأريخِ الإسلاميِّ، وإنْ اعتصمَ أصحابُهَا بالدِّينِ، وانتسبُوا لنورِ الإسلامِ.
إنَّ مَن ينكرُ وجودَ العصبيَّةِ بمفهومِهَا الواسعِ في مجتمعِنَا الحاضرِ فهُو منكرٌ لأبجدياتِ مسالكِ النَّفسِ الإنسانيَّةِ ومكنوناتِهَا المطمورةِ في أجلَى صورِهَا؛ فقدْ تحضرُ علَى هيئةِ صورةٍ ناطقةٍ، أو كلمةٍ نابيةٍ، أو حتَّى فعلٌ مستهجنٌ قبيحٌ يبدِي السَّوءَةَ، ويكشفُ المطمورَ..!!
مع كلِّ ذلكَ؛ يبدُو الوضعُ في مأمنٍ إذَا نحنُ أقررنَا بوجودِ تلكَ الرُّوحِ العصبيَّةِ الخفيةِ شريطةَ المبادرةِ بسرعةِ لمعالجتِهَا، وتحطيمِ سورِهَا، وكسرِ أغلالِهَا من خلالِ مناهجِنَا التَّعليميَّةِ ومحاضنِنَا التَّربويَّةِ؛ ناهيكَ عنْ كشفِ عورِهَا ومثالبِهَا في النَّدواتِ الفاعلةِ والتَّوصياتِ النَّاجعةِ.
كلُّ ذلكَ بدافعٍ دينيٍّ في مقامِهِ الأوَّلِ، ثمَّ بدافعٍ وطنيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ، من خلالِ نشرِ سلبياتِ التَّعصبِ وأخطارِهِ بكافَّةِ صورِهِ وأشكالِهِ، ولنتذكر جيِّدًا أنَّنا في أرضٍ توحَّدتْ في مقامِهَا الأولى علَى مبادِئ المساواةِ.
كمَا علينَا أنْ نتذكَّرَ جيِّدًا أنَّ هناكَ أوطانًا تختنقُ بروحِ التَّعصبِ حتَّى طالَهَا خبثُهَا فكريًّا وسياسيًّا وإداريًّا وعلميًّا واقتصاديًّا، فأنبتَ لهَا كوارثَ داميةً، وأسقطَهَا من الحسابِ كمَا تسقطُ الشَّجرةُ الوارفةُ بالخيراتِ...!!
التَّعصبُ.. لبوسٌ متنوِّعةٌ..!!
تاريخ النشر: 04 أبريل 2014 04:29 KSA
بينَ الحينِ والآخرِ تبرزُ مواقفُ تتبدَّى فيهَا روحُ التَّعصبِ بكلِّ أشكالِهِ، يظهرُ كلُّ ذلكَ بصورٍ متعدَّدةٍ وألوان ٍمختلفةٍ، سواء بصورةٍ بارزةٍ حيَّةٍ أمْ بصورةٍ متخفِّيةٍ مبطَّنةٍ.
A A