المطلع على المشهد الثقافي والأدبي والفكري في التاريخ العربي لن يكون عسيرًا عليه أن يجد حضورًا واضحًا وبارزًا ومائزًا للصالونات الأدبية والمجالس الثقافية، على اختلاف منشئها والمقصد منها، فمنذ قديم الزمن كانت فكرة الصالونات الأدبية والمجالس الثقافية حاضرةً بقوة في التاريخ، حيث يرعاها الخلفاء والأمراء والمثقفون، كما كانت تحظى باهتمام كبير من المجتمع الذي توجد به.. وظلت الفكرة في حالة نمو وتطور مع تطور المجتمعات واختلاف وتباين ثقافاتها ورؤاها الفكرية، وكان للممكلة العربية السعودية إسهامها المقدر في حركة الصالونات الأدبية على مر الحقب والسنوات، حيث تعددت الصالونات الثقافية، وازدهرت، فلا تكاد تخلو مدينة من مدن المملكة إلا وبها صالون ثقافي يرعاه أحد المثقفين، ويشهد حضورًا كثيفًا من قبل المثقفين والمهتمين والباحثين،
هذا التزايد في حضور هذه المؤسسات الأهلية والخاصة يرى فيه البعض مؤشرًا على نقصان الاهتمام بما تقدمه المؤسسات الثقافية الرسمية الممثلة في الأندية الأدبية وفروع جمعية الثقافة والفنون، وغيرها من المؤسسات الرسمية الأخرى، ويعللون ذلك لـ»برودة» ما تطرحه المؤسسات الرسمية وما يصحبه من «قيود» تتحلل منها الصالونات الأدبية إذ تبدو الحرية فيها منطلقًا في هامش أوسع، والأريحية في الطرح متنازلة عن البيروقراطية والأطر المقيدة.. ورغم هذه الصورة المشرقة التي يرسمها المنحازون إلى الصالونات الأدبية إلا إنهم يعترفون بحاجة هذه الصالونات إلى أطر قانوينة وتراخيص رسمية تقنن نشاطها وتفتح لها الآفاق للخروج من قبضة الاجتهاد الشخصي إلى العمل المؤسسي، وخوفًا عليها من التلاشي والغياب عن الساحة بعد موت المؤسس أو خفوت دعمها المالي وعدم استمراريتها، لهذا فهم يقفون نصراء لفكرة التأطير بالتراخيص وما يتبع ذلك من دعم من الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام. هذان المطلبان (التراخيص والدعم) ينكرهما آخرون أشد الإنكار، ويحذرون من مغبة الوقوع في حبائلها بحجة أن السعي نحو التراخيص سيحول هذه المنافذ الأهلية إلى رسمية بما يلزمها بالمقيدات التي أقعدت -برأيهم- المؤسسات الثقافية الرسمية، ويفقدها عفويتها وهامش حريتها ومرونتها.. ما بين استحسان التراخيص والدعم وإنكارهما جرى هذا النقاش الذي يشارك فيه ثلة من مؤسسي الصالونات الثقافية، والمتابعون لها..
حياة بعد الموت
يبتدر الحديث الدكتور عبدالمحسن القحطاني بسابق خبرته في رئاسة مؤسسة ثقافية رسمية ممثلة في النادي الأدبي الثقافي بجدة، ورعايته حاليًا لمشروع ثقافي وأدبي على نحو شخصي منظور في «الأسبوعية» على هذه الخلفية يقول: هذه الصالونات إذا أريد لها الاستمرار فلتأخذ ترخيصًا؛ لأنه ما يشبه الاتفاقية بين الصالون وبين وزارة الثقافة ليكون هناك التزام وعدم اهتزاز، وهذه الصالونات منها ما مات ومنها ما ظل متقطعًا في الأوقات وجزء منتظم في الأنشطة، والصالونات الأدبية فيها من الحميمية وعدم الرسمية ما يجعل المثقفين يرتادونها؛ ولكن تظل الأندية الأدبية والجمعيات الثقافية هي التي لا تموت، تتغير مجالس الإدارة ولكن تظل هذه المنابر سامقة.
ويتابع القحطاني حديثه مضيفًا: نعم لقد أسهمت الصالونات الأدبية بشكل وافٍ في الحركة الثقافية في وطننا، وستسهم أيضًا حينما تجد دعمًا من وزارة الثقافة والإعلام تأييدًا ورعايةً وحافزًا، فبعض هذه الصالونات تطبع نتاجها وتحتاج إلى وزارة الثقافة والإعلام لأن تشتري جزءًا من هذا النتاج لتوزيعها داخل المملكة وخارجها ولتساعد الصالونات على تكاليف الطبع، لأنها ما زالت صالونات فردية إلا ما تحول إلى مركز ثقافي وهي واحدة في منطقة ومنطقة أخرى لا يوجد بها هذه المراكز.
ويخلص القحطاني إلى القول: المراكز الثقافية من حقها أن تستمر بعد موت مؤسسها كما حدث لمركز حمد الجاسر في الرياض أو ابن صالح في القصيم مثلا، فحبذا لو أسرعت الوزارة في إصدار التراخيص لمن يطلب، ولكن أقول إن كثرة الصوالين دليل على صحة المشهد الثقافي وعافيته.
شبح الوهن الثقافي
ويتفق الدكتور محمد المشوح المشرف العام على «ثلوثية المشوح» مع صاحب «الأسبوعية» الدكتور القحطاني في عفوية الصالونات الثقافية بما يشجع على ارتيادها، غير أنه يختلف معه في أمر الدعم بحجة أن ذلك سيصيب الصالون بما أطلق عليه مصطلح «الوهن الثقافي»، هذه الرؤية صاغها المشوح بقوله: أعتقد أن جاذبية وأهمية ونجاح الصالونات الثقافية يكمن في عفويتها من جميع الجوانب سواء الرسمية أوغيرها، ووجود ما يسمى بالدعم أخشى أن يصيبها بشيء من الوهن الثقافي الذي يقبع حاليًا في المؤسسات الثقافية الرسمية الأخرى؛ لذا فإنني أرى أن يتم نوع من التعاون والتشجيع من غير تدخل مباشر قد يطفئ شمعة الوهج والنجاح التي تحققت خلال السنوات الماضية لهذه المنتديات والصالونات، كما أن فكرة التراخيص لا أحبذها لأنها كما أسلفت سوف تزيح تلك العفوية المنبعثة من تلك المنتديات، وهو ما أجزم أن وزارة الثقافة تسعى إليه من غير تدخل في الشأن الثقافي لهذا النفس المدني الجميل.
أطر قانونية ودعم
ويقف الشاعر عبدالرحمن موكلي صاحب «صالون موكلي الثقافي» في صف الدكتور القحطاني من حيث حاجة هذه الصالونات إلى اعتراف رسمي من قبل الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام، بما يحتم أن تكون لها قوانين ضابطة لنشاطها، بجانب الدعم المادي الذي يجنبها شبح التوقف، حيث يقول الموكلي: تأتي أهمية المنتديات - الصالونات - الثقافية من خلال دورها الحيوي في خلق حراك ثقافي واجتماعي، وتعبيرها عن حيوية المجتمع وتعدده وخلق مناخ متنوع للحوار، والفضل يعود لمسيرة الإصلاح التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-. لذلك وحتى يكون لهذه المنتديات مشاركة فعالة تجاه قضايا الوطن، وتحمل المسؤولية، فلا بد من إزالة كل العوائق التي تربك عمل هذه المنتديات بدءًا بسن الأطر القانونية التي تكفل لهذه المنتديات مزاولة عملها، والدعم للمنتديات كمؤسسات أهلية تعمل لخدمة المجتمع سواء هذا الدعم من قبل وزارة الثقافة والإعلام أو وزارة الشؤون الاجتماعية.
التراخيص ضد المصلحة
ويقف حسن آل خيرات رئيس النادي الأدبي الثقافي بجازان في صف الابتعاد بهذه الصالونات الثقافية والأدبية عن ساحة الرسميات برجاء تركها لتستمتع «بنكهتها» الخاصة، وحريتها المرغوبة، وبيان هذه الرؤية في سياق قوله: أتصور أن استقلاليتها عن وزارة الثقافة وأية جهة رسمية أخرى أفضل لها من أي علاقة بأي من هذه الجهات، منفردة، أو بها مجتمعة، وفي حال حدث ذلك فمما لا شك فيه سيحدث معه تغير في نكهة وخصوصية ومساحة تحرك هذه الصالونات والمنتديات، وبشكل أو بآخر لن تبقى على طبيعتها ولا في معناها وأثرها لدى مرتاديها.
ويستدرك آل خيرات بقوله: معلوم أن استقلاليتها في ميزانياتها المالية ورؤاها وطروحاتها لا يعني تجاوزها خطوطًًا تقف عندها اﻷندية اﻷدبية وجمعيات الثقافة والفنون، ويقف عندها المجتمع برمته، ولكن ذلك يترك لها مساحات حرية وحركة أوسع مما هي لدى المؤسسات الثقافية المدعومة، وبالتالي أرى أنه ليس في مصلحة هذه الصالونات البحث عن قيد التراخيص تحديدًا كما ليس في مصلحة ثقافة الوطن تقييد مسيرة عابريها ولاسيما قبل أن تشرع في المسير.
مناخ خانق
ويبدو القاص فهد الخليوي منحازًا لعدم تقييد الصالونات الثقافية بالأطر الرسمية خوفًا عليها من «المناخ الخانق» -على حد تعبيره- الذي ضمنه في جوف قوله: غالبًا ما تكون المؤسسات الثقافية الرسمية منحازة لرؤيتها الخاصة، ومقيدة بالتوجيهات والقرارات الملزمة لكيفية مسيرة الثقافة بشكل عام، بمعنى أن المثقف له رؤيته وطموحاته المختلفة كثيرًا عن أطروحات المؤسسة الرسمية، ولهذا اتجه بعض المثقفين لإنشاء الصالونات الأدبية والثقافية بعيدًا عن المناخ الخانق في صالات الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة، وأصبحت معظم تلك الصالونات تؤدي دورًا فاعلاً لتنشيط الحراك الثقافي وتوفر هامشًا كبيرًا من الحرية لما يطرح فيها من حوارات ونقاشات وتنوع فكري وثقافي وأدبي، ما أدى لتميزها بحضور كثيف من المشتغلين والمهتمين بمجالات الثقافة والفكر والأدب.
ثقافة ارستقراطية
ويقف الناقد والشاعر محمد الحرز وحيدًا في الشاطئ الآخر منتقدًا لمسيرة هذه الصالونات الأدبية الخاصة، مرتئيًا جنوحها نحو إنتاج «ثقافة استقراطية» أعادت برأيه «إنتاج العائلة والقبيلة»، ولم يخلص الحز إلى هذا الرأي إلا على مهاد مقدمة تفصيلية ومفرقة بين «ثقافتين»، حيث ينظر تفصيل ذلك بقراءة قوله: إذا جاز لنا التعبير، ثمة فرق هنا بين ثقافتين، أو لنقل بين سياقين للثقافة في مشهدنا المحلي. الأولى هي المؤسسات الرسمية التي تعمل تحت إشراف الدولة وتحت مظلتها ورؤيتها ودعمها المادي مثل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون. لذلك هي خاضعة لشروطها في إنتاج الثقافة، وإنتاج الإبداع، بينما الأخرى هي نابعة من مجهودات ذاتية أو فردية تحاول أن تمرر قناعاتها وأفكارها ورؤيتها للثقافة والإبداع من خلال ما يسمى بالصالونات الثقافية المتخصصة. هذا الأخير هو نتاج مؤسسات أهلية، تعتبر رافدًا من روافد دعم الثقافة، وتنويعًا لا ينبغي إهماله أو عدم دعمه، خصوصا من طرف المؤسسات الرسمية، ولا أعني هنا فقط المؤسسات المتخصصة في الشأن الثقافي فقط، بل كل مؤسسة لها شأن وعلاقة مباشرة أو غير مباشرة بالفرد داخل المجتمع.
ويمضي الحرز في حديثه مضيفًا: هنا أصل في ظني إلى جذر المشكلة التي تعانيها ساحتنا الثقافية، ففي حين يحيل البعض عزوف الجماهير عن حضور فعاليات ونشاطات المؤسسات الرسمية، إلى قوة وجذب الصالونات الثقافية الأهلية لتلك الجماهير. فإنا نرى مسألة إصدار التصاريح أو التشجيع أو الدعم لا يحل المسألة من العمق، إن الاختلاف هنا بين ثقافتي المؤسسات والصالونات هو اختلاف في الكم وليس في النوع، لذلك لا معنى للدعم إذا لم يكن مشروطًا بثقافة مغايرة. لذا أقول بصراحة إذا كنا ننظر إلى ظاهرة الصالونات الثقافية باعتبارها تنم عن حراك اجتماعي باتجاه الثقافة وتفعيل كل ما يمت لها بصلة، فإن ذلك يجعلنا حذرين مما نراه، فأغلب تلك الصوالين المنتشرة في شرق البلاد وغربها، لا تنتج سوى ثقافة استقراطية، تعيد إنتاج العائلة والقبيلة وتكرس مفرداتها، وتجعل من الاصطفاف ظاهرة في حد ذاتها، وهذا يلغي معنى التواصل والحوار المبني على حرية الاختيار والمسؤولية الفردية. ويختم الحرز بقوله: لا أقول هذا الكلام لأبرر عدم دعم هذه الصالونات، بل بالعكس بعض الصالونات، والتي تسعى جاهدة لتقديم ثقافة مختلفة عن التوجه العام للمؤسسات الرسمية، ينبغي دعمها وإبراز جهودها، لكن بحذر أقل، فالثقافة التي تنمي الوطن والمواطنة ما زالت تحبو ولم تمش بعد.
تعليمات عقيمة
ويصطف القاص والروائي عمرو العامري مع الداعين لتجنيب الصالونات فكرة المظلة الرسمية عبر التراخيص والدعم، بقوله: أدعو الله ألا تنضوي هذه الصالونات والمنتديات تحت أي مظلة رسمية لأنها حينها ستخضع لقواعد وتعليمات عقيمة وقد تضطر إلى استئذان الأجهزة الرسمية في أي منشط ثقافي وبالتالي ستغدو نسخة مكررة من الأندية الأدبية ومن جمعيات الثقافة ومن باقي المؤسسات الرسمية التي لا توافق أحيانًا على أسماء ذات حضور فاعل في الحراك الثقافي من اعتلاء منابرها ولأسباب تعلمها هذه الجهات وحدها.. ثم إن هذه الصوالين الأدبية هي أداة من أدوات المجتمع المدني والذي نأمل أن نرى له حضورًا وحراكًا أشمل ونأمل أن تبقى تتمتع بهامش من الاستقلالية وأيضًا بدعم رجال الأعمال إن أمكن.. لأن الثقافة الجادة في نهاية اليوم هي هم مجتمعي أكثر منها مؤسسات رسمية.
توغل في المجتمع
ويرى مؤسس وصاحب «خميسية دحّام العنزي» الكاتب دحّام العنزي أن فكرة الصوالين الأدبية والفعاليات الثقافية قديمة المصاحبة لها موغلة ومتجذرة في تاريخ الأمة العربية وعادات وتقاليد الأمة السعودية على وجه الخصوص. كانت هناك ما تسمى الديوانيات وهي مجلس يجتمع فيه أهالي الحي يكون عادة لدى أحد الوجهاء ويسمر القوم ويتحاورون بكل شيء وحول أي شيء برفقة قهوتهم العربية حتى ينفض السامر في وقت متأخر. وفي تلك الديوانيات تتخذ القرارات وتتم مناقشات أمور القبيلة أو الحي في وقت لاحق، في هذا الوقت أيضا تبعث الديوانيات من جديد ولكن بفكر نخبوي مختلف وقضايا أيضا مختلفة.
مضيفًا بقوله: كأحد أصحاب تلك الصوالين الادبية سأتحدث عن ديوان دحام العنزي الأدبي الثقافي وفعاليات ندوة الخميسية في ديواني. بمعدل مرتين في الشهر نلتقي مساء الخميس لإثراء المشهد حول قضايا همومنا الجمعية ونطرح المشكلة والحلول. عناوين مثل غواية الدال والشهادات الوهمية او الاحتقان الطائفي أو السرقات الادبية وسرقات البحث العلمي يشارك فيها النخبة من المثقفين وأساتذة الجامعات وأعضاء الشورى من الجنسين. باعتقادي وعن تجربة أن دور وزارة الثقافة والإعلام غائب عن الاهتمام في تلك المنارات الفكرية التي بدأت تنتشر في كل مدن المملكة وهذا دليل استنارة فكرية وتحضر المجتمع.
ويشجع العنزي فكرة الدعم ويطالب به في ختام حديثه بقوله: لن تستطيع تلك الصالونات أن تستمر وحتى إن رعاها وتبناها المثقف إن لم يكن هناك تشجيع ودعم من الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام والتي تلعب دور المتفرج حاليًا. لا أقل من أن تشجع الوزارة وتدعم الفعاليات وتسهل مهمة أصحابها التنويرية لإثراء المشهد وتمنحها التصاريح اللازمة بل وتتبنى الدعم المادي. للصوالين الناشئة إن كان هناك فعلًا إيمان بدور فعاليات المجتمع وجهود المثقفين الذين يحتاجون بشدة لرعاية الوزارة ودعمها ضمانا لاستمرار الحراك الثقافي والأدبي.
الصالونات الثقافية.. قلق من التراخيص وأمل في الدعم
تاريخ النشر: 09 أبريل 2014 05:09 KSA
المطلع على المشهد الثقافي والأدبي والفكري في التاريخ العربي لن يكون عسيرًا عليه أن يجد حضورًا واضحًا وبارزًا ومائزًا للصالونات الأدبية والمجالس الثقافية، على اختلاف منشئها والمقصد منها، فمنذ قديم ا
A A