نحنُ في زمنِ المراجعةِ؛ نراجعُ كلّ شيءٍ؛ فقديمًا عرفت الأمم ذات الإرثِ الحضاريّ ما يسمَّى بأدبِ المراجعةِ، أو أدبِ الوقفاتِ، فأخذت حظَّها منه- ولمَّا تزل-، وباشرته في كلِّ شؤونِها؛ استنطاقًا للأخطاءِ، وتعزيزًا للبناءِ، فأثمرت بحقٍّ نتائجَ مدهشةً أدَّت إلى تحوُّلاتٍ جذريَّةٍ: فكريَّةٍ، وعلميَّةٍ، ومجتمعيَّةٍ؛ فأنبتت للحضارةِ الإنسانيَّةِ ما أنارَ الطَّريقَ وأهدى للعقولِ.
إنَّ أدبَ المراجعةِ ليسَ غريبًا في عُرفِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ؛ فمنذُ النَّشأةِ الأولى للإسلامِ وهو حاضرٌ ينشطُ تارةً، ويغيبُ تاراتٍ، إذ إنَّه أدبٌ يبحثُ عن مواطنِ الخللِ في كلِّ مرحلةٍ من المراحلِ للتَّصحيحِ والتَّقييمِ: تصحيح الخطأ، وتعديل المعوّج؛ لمعرفةِ اللُّبابِ من اليبابِ، والجوهرِ من السَّاقطِ.
فهل أُبالغ إذا قلتُ إنَّ أدبَ المراجعة في وقتنا الحاضرِ أصبحَ في عِداد الموتى بعد أن أُصيبَ العقلُ العربيّ والإسلاميّ بحالةٍ من الجمودِ والتَّرهلِ وهو يتدثَّر بأخطر عباءة يلْتحفها؛ إسقاطًا لحالةٍ من القداسةِ على الاجتهادات البشريَّة، وما يصدرُ عنها، حتَّى أصبحنَا بفعلِ معطياتٍ متساوقةٍ إلى حالةٍ من التَّوثين، والتَّصنيم!!
إنَّ عمليَّة المراجعةِ في حقيقتها الجوهريَّةِ جزءٌ أساسٌ من عمليَّة التَّصحيحِ؛ فلا قيمةَ للمراجعةِ إنْ لم تكشف لنا السَّوءة، وتبيّن الخطأ، وتثمر رؤيةً جديدةً في الحقول المستعصية عن المناقشة، أو الحلولِ بفعل الفَهْم المنحرفِ، والتَّأويلِ الفاسدِ.
إنَّ الدِّين بمفهومه الواسع لا يقفُ في وجه القيمة الكبرى للمراجعةِ؛ وإلاَّ كانَ الحديثُ النَّبوي الشَّريف: "إنَّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأسِ كلّ مئةِ سنةٍ مَن يجدد لها دينها"؛ عبثًا، وكلامًا هلاميًّا، وحاشاه أن يكون.
إنَّ عمليَّة المراجعةِ في أسّها الذي ينبغي التَّعويلُ عليه: نفثٌ للخبثِ، ونزعٌ لنابتةِ السّوءِ؛ تقويمًا للاعوجاجِ، وتصويبًا للخطأ، وتدريبًا للعقل، وتمرينًا للفكرِ، فثمَّة العديد من صنوفِ المراجعاتِ تمثّل في المجملِ مرجعاتٍ فكريَّةً قام بها بعض المفكِّرين على امتدادِ تأريخنَا كان لها أثرها، ولكنَّه في الجملة أثرٌ لا يتجاوزُ القشرةَ، ولا يتعدّاها حتّى أصبح لدينا تركةٌ عظيمةٌ من الأخطاء، وحِزمٌ كثيرةٌ من الأزمات.
إنَّ مواريثَ الأجيالِ النَّابغة على امتدادِ سياقها الفكريّ في الحضاراتِ شرقًا وغربًا تنبئ عن الدَّورِ الكبيرِ الذي لعبه أصحابُها، وهم يصرفونَ الأوقاتَ، ويجنِّدونَ الطَّاقاتِ؛ لتقويم الأوضاعِ إذا أعوجَّت، وتقييم الأخطاءِ والإخفاقاتِ إذا شاعتْ أو انتشرتْ.
وعطفًا على ذلك، تقيم الجامعةُ الإسلاميَّة بقيادةِ مديرها معالي الأستاذ عبدالرحمن السند المعروفِ برؤيتهِ الفكريَّةِ ونهجه الوسطيّ، وغيرته الدِّينيَّة والوطنيَّة في ظرف هذا الشَّهر مؤتمرها الكبير، تحتَ عنوان "مراجعات فكريَّة وحلول عمليَّة" رحاه يدورُ حولَ الإرهابِ الذي طالنا بويلاتِهِ ومهلكاتِهِ، "هادفًا إلى بناء إستراتيجيَّة علميَّة برؤيةٍ إسلاميَّة للمعالجة الفكريَّة للإرهابِ من خلال التَّعرفِ على نقاطِ القوَّة والضَّعفِ وفرصِ النَّجاحِ والمخاطر المحيطة بكلِّ مراجعةٍ فكريَّةٍ أو جهدٍ دعويّ، أو رؤيةٍ أو آليَّةٍ جديدة معزِّزة لإعادة المنحرفين، ودرء الخطرِ عن المستقيمين، وذلك بما يحقّق الانتقال بالمعالجاتِ الفكريَّةِ من مرحلة التَّنظير إلى مرحلة التَّطبيق".
وإذا كانت الجامعةُ الإسلاميةُ تضطلعُ بهذا الدورِ الكبيرِ فإنَّ المكانةَ المرموقةَ التي تتبوأها المملكة العربية السعودية ممثَّلة في حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -ألبسه الله رداءَ الصِّحةِ والعافيةِ- تفرض عليها موقفًا قياديًّا في الدَّعوة لكلِّ ما فيه الخير لعامَّةِ المسلمين، ودفع الشَّر عنهم، وهذا يحتِّمُ معالجة جادَّة لهذا الانحرافِ الفكريّ، وهو ما تهدفُ إليه الجامعةُ الإسلاميَّةُ بإقامة هذا المؤتمرِ العالميّ.
مراجعاتُ «فكر الإرهاب» في الجامعةِ الإسلاميَّةِ
تاريخ النشر: 11 أبريل 2014 04:26 KSA
نحنُ في زمنِ المراجعةِ؛ نراجعُ كلّ شيءٍ؛ فقديمًا عرفت الأمم ذات الإرثِ الحضاريّ ما يسمَّى بأدبِ المراجعةِ، أو أدبِ الوقفاتِ، فأخذت حظَّها منه- ولمَّا تزل-، وباشرته في كلِّ شؤونِها؛ استنطاقًا للأخطا
A A