يقولُ المفكِّر محمد الغزاليّ: "كما أن الجَهلةَ من العوامِ الذين يسيئونَ للدِّين بمفاهيمَ خاطئةٍ، وعلومٍ مرّتجلةٍ؛ يمارسونَ شكلاً من أشكالِ التَّسلطِ والديكتاتوريَّةِ".
قالَ الغزاليّ تلكم الكلمةُ في ثنايَا كتابهِ الشَّهير (السنّة النبويّة بينَ أهل الفقهِ وأهل الحديثِ) ومن ثمّة رحل؛ ولكنَّها ظلّت قبسًا من قبساتِ الفكرِ، وملمحًا من ملامحِ الواقعِ؛ تدارُ في كلّ زمانٍ ومكانٍ متى ما ابتليت الأمَّة بأمثالِ ما عبَّر عنه الغزاليّ -رحمه الله-، حينما استشعرَ الدورَ الخطيرَ الذي يلعبُه الكثيرُ، والكثيرُ جدًّا ممّن يسيئونَ إلى الدِّين، بتلك الفهوماتِ المغلوطةِ، حول الدِّينِ بالقولِ حينًا والممارسةِ في أحايينَ كثيرةٍ.
نعم؛ هُم بالكثرةِ ما يصعبُ تعداد ممارساتِهم الخاطئةِ، وليتَ الأمرَ لم يتعدَّ مرتهنهم القوليّ، وأبقوه حبيسَ أنفسِهم؛ ولكنَّهم زيادةً في الجَهْلِ، وتوسُّعًا في الغيِّ أضافوا عبئًا على الدِّينِ، بالقولِ الشَّازِ تارةً، وبالفعل الممارسِ تارةً، أو بالتّسلط في أحايينَ كثيرةٍ.
إنَّ وقائعَ التّأريخ وأحداثَه المتلاحقة تؤكِّدُ بما لا شكّ فيه أنَّ هذا الانحرافَ الفكريَّ مدعاةٌ إلى الفَهْمِ السَّقيمِ للكثيرِ من مسائلِ الحياةِ؛ بل إنَّ انحرافَ الفكرِ في هذا السِّياقِ يؤدّي بصاحبهِ حتمًا إلى مهلكاتٍ، فما بالك إذا كانَ ذلكَ الانحرافُ فعلاً ممارسًا، يستبيحُ ما حرَّم الله، ويقودُ إلى تدميرِ ما اكتسبهُ الناسُ من حصيلةِ الفكرِ أو الاعمارِ، وكلَّما ازداد الانحرافُ في مسائلِ الدِّين ومقاصدِه وأحكامِه وغاياتِه، كانَ ذلك أدعَى إلى تفاقمِ الضَّررِ، واستشراءِ الخطرِ، وتفاقمِ العللِ؛ لأنَّ بؤرَه تتكاثرُ، وأمراضَه عدوى تتلاحقُ فتتلاقحُ سلفًا عن خلفٍ.
ثمَّة كثير من المفاهيمِ المغلوطةِ يتبنّاها الفردُ، ويتعاطَى معها في حياتِه، بانيًا عليها الكثيرَ من أهدافِه ومقاصدِه؛ ولكنَّها في النهايةِ شواظٌ لاذعٌ لذلك الفهمِ الخاطىءِ الموصلِ إلى النتيجةِ الحتميَّةِ بما تحملُه من سوءٍ وقبحٍ.
وثمَّة الكثير من الجماعاتِ والفرقِ على امتدادِ تأريخِنا العربيّ والإسلاميّ تتبنَى الكثيرَ من المفاهيمِ الخاطئةِ، والأفكارِ المغلوطةِ، وترسمُ عليها، ومن خلالِها ملامحَ مشوَّهةً تطرحُها على صورةِ فكرةٍ قد تعيشُ وتقبلُ التَّطبيقَ، أو تطرحهَا على هيئةِ فعلٍ يستحيلُ إلى ممارسةٍ مقيتةٍ، وما تلك المفاهيمُ المشوَّشةُ التي تُطرح في زمننا هذا على صورةِ خطابٍ، أو كتابٍ، أو صورةٍ هي في الجملة تُسهم في تشويشِ الفهمِ عند قبيلٍ من المسلمينَ أفرادًا كانوا أو جماعاتٍ، حينئذٍ يقعُ المحظورِ، ويستشرى الدّاء، ويتّسع الفتق على الرَّتق.
ولعلَّ الكثير من الأحداث التي أضرّت بالأمَّةِ الإسلاميَّة أشدّ الضَّرر، وأصابتها بداءٍ يصعبُ معه العلاج، ما هي إلاَّ محصلة نهائيّة لكلِّ تلك المفاهيمِ المغلوطةِ، والنّزعات التّسلطيّة ذات الجانبِ الارتجاليّ المصحوب بالغفلةِ والجهلِ؛ حتى استحالَ الدّاء إلى مرضٍ عضالٍ، ومن ثمَّة؛ قد يستغلقُ عن العلاجِ.
لقد حاولَ التّأريخُ من خلال مُصْلحيه على امتدادِه الطَّويلِ الإفلات من هؤلاء؛ ولكنَّه لم يفلح...!! فكلّما أصلح المصلحونَ، وحاولَ المفكرونَ تصحيحَ ما وقعَ فيه أمثالُ هؤلاء جاءَ من حرَّك الجمْرَ، وأزادَ لهيبَ النَّارِ!
لقد حذّر ابن مسعود -رضي الله عنه- أيَّما تحذيرٍ حينما قال: "لا يزال الناسُ بخيرٍ ما أخذوا العلمَ عن أكابرِهم، وعن أمنائِهم وعلمائِهم؛ فإذا أخذوه عن صغارِهم وشرارِهم هلكُوا".
ويقول ابن قتيبة: "لا يزال الناسُ بخيرٍ ما كانَ علماؤهم المشايخ، ولم يكنْ علماؤهم الأحداث؛ لأنَّ الشيخَ قد زالت عنه حِدَّة الشبابِ ومتعته وعجلته، واستصحبَ التجْرِبة في أمورِه، فلا تدخل عليه في علمِه الشبه، ولا يستميله الهوَى، ولا يستزلّه الشيطانُ، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخِ".
لقد زعمَ الكثير في زمنِ الغفلةِ أنَّهم من العلماء؛ يفتون في كلّ شاردةٍ وواردةٍ ظنًا وبهتانًا أنَّ مجردَ قراءة بعضِ الكتبِ، أو حفظ بعضِ الآياتِ، أو جملة من الأحاديث، أو الإلمامِ بشيءٍ من الثقافةِ الشرعيَّةِ العامَّةِ تجعلُ منهم علماءَ وفقهاء.
وحصيلةُ المطافِ: إنَّ أكثرَ ما أوردَ الناسَ المواردَ؛ تفسيرُهم الخاطئ لكثيرٍ من النصوصِ، وفهمُهم المنحرف للكثيرِ من المقاصد؛ فــ"مَن تفقّه في بطون الكتب ضيّع الأحكام، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه".
إساءة بالغة..!!
تاريخ النشر: 12 سبتمبر 2014 03:43 KSA
يقولُ المفكِّر محمد الغزاليّ: "كما أن الجَهلةَ من العوامِ الذين يسيئونَ للدِّين بمفاهيمَ خاطئةٍ، وعلومٍ مرّتجلةٍ؛ يمارسونَ شكلاً من أشكالِ التَّسلطِ والديكتاتوريَّةِ".
A A