مدّعين جهلاً أنّ سبب تأخّر هذه الأمّة يعود إلى التشبّث بلغة القرآن الكريم، مع أنّ التاريخ يثبت أنّ هذه اللّغة هي التي أجمع الشّعراء والمبدعون في العصر الجاهلي وفي جميع أنحاء الجزيرة العربية إلى إنشاد شعرهم الجميل والأخّاذ بها، حيث تخلّصت من نقائص وسلبيات اللّهجات الأخرى التي كانت سائدة آنذاك في تلك الحقبة. واعتبر الرّواة والمؤرّخون ذلك الإجماع والتّلاقي إشارة إلى المهمة التي اختارها الله لها، والمنزلة التي اختصّها بها لتكون اللّغة التي تنزّل بها الوحي الإلهي على سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت فاتحة ذلك التنزيل هو الدّعوة إلى العلم والمعرفة والمتمثلة في قوله عزّ وجلّ: «اقرأ باسم ربّك الذي خلق (*) خلق الإنسان من علق (*) اقرأ وربّك الأكرم (*) الذي علّم بالقلم (*) علّم الإنسان ما لم يعلم».
وتأمّلوا قوله صلّى الله عليه وسلّم شاكيًا جهل بعض قومه ومعاداتهم لرسالته، ومناجيًا مولاه في عبارات بليغة ومؤثّرة وما كنّا بقادرين على قراءتها اليوم بعد هذه الحقب الطويلة، والأزمان المتباعدة: «اللهمَّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى مَنْ تكلني، إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوٍّ ملّكته أمري، إن لم يكنْ بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، لكنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة مِنْ أن ينزل بي غضبك أو يحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك»..
نعم؛ لو لا ذلك الاصطفاء الإلهي لها لاندثرت هذه اللّغة من شدّة ما اعتراها من ضربات قاتلة. ويشاطرنا الرأي في ذلك المفكّر والأديب الكبير عبّاس محمود العقّاد - رحمه الله -عندما أشار في مقدمة كتابه «اللّغة الشّاعرة»، والتي قامت «المجلّة العربية» أخيرًا مشكورة بإعادة طباعته بمناسبة مرور نصف قرن من الزمن على وفاة العقّاد، يقول الأستاذ العقّاد في هذا السّياق: «لقد تعرضت هذه اللّغة - أي العربية - وحدها بين لغات العالم لكلّ ما ينصب عليها من معاول الهدم، ويحيط بها من دسائس الرّاصدين لها لأنّها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية، لا لأنها لغة كلام وكفى»، انتهى كلام المرحوم العقّاد.
وإذا كنتُ أشرتُ في بداية هذه الكلمة أن حديثي عن اللّغة العربية في مناسبة يومها العالمي سوف ينأى عن البكائية التي تطبع للأسف الشّديد الكثير من كتاباتنا عن تراثنا العربي والإسلامي، وفي مقدمة ذلك اللّغة التي كتب بها هذا التراث الحي، فإنّنا أميل إلى أنّ اللّغة هي كبقية مظاهر النّشاط الإنساني تتأثّر صعودًا وهبوطًا بالسّياق الحضاري والفكري والاجتماعي، وأنّ تأخّرها مردّه إلى تحوّلنا من صُنّاع للحضارة أو مشاركين في بنائها، إلى مقلّدين لها، وفي كثير من الأحيان مسيئين للأسف لاستخدام ما تقذف به الحضارة الغربية من وسائل وإبداعات، ومع أنّ الغرب هو من تلقّى حضارتنا العربية والإسلامية وأضاف إليها، كان له الفضل في انتشار تلك الوسائل العلمية الحديثة إلا أنّه لم يمنحها ما منحناه إيّاها من يقين راسخ بكينونتها وديموميتها والرّكون إليها بصورة لم ينتبه إلى نقائصها إن لم يكن مفاسدها الفكر العربي المعاصر.
في الختام لابد من إزجاء الشّكر للإخوة في هذا القسم الذين قادهم حبّ لغة القرآن إلى تخصيص هذه الحلقة الدراسية، لتضيف بها كلّيتنا وقسمنا رصيدًا جديدًا لمكاسب كثيرة تحقّقت على مدى السنوات الماضية. ولعلّ منقبة الوفاء التي يفترض أن تكون من أخلاقياتنا وقيمنا الرّاسخة تدعوني لتذكّر الشّخصيتين اللّتين كان لهما الفضل - بعد الله - في إنشاء هذا القسم، وهما: عالم اللّغة الدكتور الهادي الفضلي، ومؤرّخ الأدب السّعودي الدكتور عمر الطيّب السّاسي، رحمهما الله، وكلاهما رحل عن دنيانا في صمت وبعيدًا عن ضجيج هذه الحياة وصخبها، مرددًا مع الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص نشيده الإنساني الرّائع:
لا أعرفنّك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زوّدتني زادي
فإن حييت فلا أحسبك في بلدي
وإن مرضت فلا أحسبك عوادي
إن أمامك يومًا أنت مدركه
لا حاضر مفلت منه ولا بادي
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، بدءً وختامًا.
(*) الكلمة ألقيت في كلّية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز يوم الأربعاء 18 صفر 1436هـ الموافق 10 ديسمبر 2014م، بمناسبة مشاركة قسم اللّغة العربية في الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية.
اللغة العربية بين ماضيها العريق وحاضرها المتعثر!
تاريخ النشر: 10 ديسمبر 2014 02:40 KSA
مدّعين جهلاً أنّ سبب تأخّر هذه الأمّة يعود إلى التشبّث بلغة القرآن الكريم، مع أنّ التاريخ يثبت أنّ هذه اللّغة هي التي أجمع الشّعراء والمبدعون في العصر الجاهلي وفي جميع أنحاء الجزيرة العربية إلى إنش
A A