Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

البرامج الشعبية الاستنزافية

انتشرت القنوات الفضائية في الأفق كانتشار النار في الهشيم ، حتى إنك لم يعد باستطاعتك معرفة أسمائها بعيداً عن متابعتها ؛ الأمر الذي دفعها إلى استخدام كل أساليب الاستنزاف الذي يضمن لها استمرارها من جه

A A

انتشرت القنوات الفضائية في الأفق كانتشار النار في الهشيم ، حتى إنك لم يعد باستطاعتك معرفة أسمائها بعيداً عن متابعتها ؛ الأمر الذي دفعها إلى استخدام كل أساليب الاستنزاف الذي يضمن لها استمرارها من جهة ، ويزيد من مدخول القائمين عليها مادياً بغض النظر عن تداعيات ممارساتهم التي تجاوزت الخطوط الحمراء ، وعكست وعياً قاصراً عن رؤية ما ستسببه البرامج المُقدمة من مخاطر تضرب في بُنية المجتمع ، وتعمل على تقويض تماسكه من خلال تعزيز العنصرية القبلية ، وتأجيج المذهبية الطائفية ، وإبراز الأحادية الجوفاء التي تتمتع بها القبيلة الفلانية أو الطائفة العلانية على بقية مكونات المجتمع ، وكأنها فريدة من نوعها ، مبدعة في ذاتها ، وما سواها لا يعدو أن يكونوا على هامش هذا الأنموذج الذي وصل " الأنا " مبتغاه ، وتجلَّى حتى لم يعد يرى حوله إلا رُعاعاً لا يرتقون أن يكونوا من ضمن اهتماماته .
إن المُتتبع لمُنتجات القنوات الفضائية – عموماً – والشعبية – تحديداً – يرى ما يندى له الجبين من برامج أفضل ما يُقال عنها أنها استنزاف لجيوب أتباع الشاعر الذي بدأ رحلة المنافسة غير الشريفة للظفر بالجائزة الكُبرى التي هي بطريق أو بآخر من مدخرات أفراد عائلته وقبيلته التي جندت لدعمه كل الوسائل المُتاحة لإبراز موهبة ممثلهم التي قد لا تتجاوز أن تكون في حدها الأدنى ، ولكن " الفزعة " هي التي جعلته يتصدر على حساب الجودة التي قد يتمتع بها غيره ، ليقيم القوم بعد الفوز المُمَكيج الاستقبالات والاحتفالات بالنصر المؤزر الذي حققه في هذه المسابقة العظمى التي تنتظرها الإنسانية بفارغ الصبر لتحل مشاكلها المزمنة ، وتنشر السلام في ربوعها ، ولم تدرِ أن هذه السلوكيات هي أُس فسادها ومصدر تخلفها ، ومنبع مشاكلها .
لا أُنكر الدور الذي تقوم به الثقافة الشعبية – كأحد الأنماط المُشكلة للخطاب الثقافي – بمدلوله اللوجستي العميق من خلال إبراز الموروث التراكمي لأيِّ أمة ؛ باعتبار أنه جزء لا يتجزأ من تاريخها الذي تتغنى به الأجيال ، ويتسامر على حكاياته الصغار ، ويُنهل من قصصه ورواياته الأخبار ، وهذا يعني أنها تُمثل خلاصة لتجارب المجتمعات في شتى مجالات الحياة ، ولكن هذا الموروث يتمتع بالعمق في التعاطي ، ويبتعد عن السطحية عند تناوله ؛ لأنه يرتكز على ضرورة الاستمرارية لهذا النمط من الثقافة بمفهومها التنويري ، مما ينعكس إيجاباً على شحذ همم أبنائه شريطة ألاّ تكون التقليدية المفرطة هي النسق الذي يحكم تناوله ولكن القنوات الشعبية التي احتلَّت حيزاً لا يستهان به من الفضاء المفتوح لنشر الثقافة الشعبية – بمفهومها الإيجابي – لم تُوفق في مهمتها ؛ مما يؤكد على وجود فراغ في منظومة الإعلام الشعبي المتخصص ؛ ويُنذر بحدوث كارثة لهذا النوع من الثقافة يخدش ماضيها ، ويشوه حاضرها ، ويُدَّمر مستقبلها ، الأمر الذي يتطلب متابعتها ، ودراسة طرق التحكم فيها بشكل إيجابي يتخذ من المعالجة الموضوعية منهجاً في توجيه مسارها من معاول هدم إلى عوامل بناء .
ولعل أبرز ملامح سقوط هذه القنوات في وحل الإفلاس تركيزها على الموروث الشعري – دون غيره – مما عكس خللاً يُحجِّم الدور المأمول الذي يجب أن تقوم به ، والأدهى والأمّر أنه وُظف في استنطاق العنصرية والعصبية على مدى أربع وعشرين ساعة يومياً ، بحيث نُصبح على وجبة .. حنا .. وأنتم .. ونُمسي على وجبة .. كنا.. وكنتم ، مع غثاء يستمر بين هاتين الوجبتين البغيضتين يتمثل في بث لساعات يُنصَّب فيها فلانٌ من الناس شيخاً على قبيلته ، أو فوز لمنقية أخرى ، أو كرم ممجوج خرج عن إطاره ، وكل هذا لا يمثل إبرازه أي مردود إيجابي لكثير من المتابعين ، بقدر ما يعكس انحداراً مُخيفاً للوعي الجمعي قد لا يُحمد عقباه .

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store