Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الدكتوراة درجة علمية لا تجاوزوا بها قدرها

لو عدنا بالذاكرة لعلماء من المسلمين موسوعيين برزوا على مر العصور، واحتل كثير منهم مكانة عالية في العلم والخلق ما حملوا هذه الدرجة ولا فكروا في أن يكون لهم مثلها، بل لعلهم علموا أن أقدارهم إنما يحققها

A A
لو عدنا بالذاكرة لعلماء من المسلمين موسوعيين برزوا على مر العصور، واحتل كثير منهم مكانة عالية في العلم والخلق ما حملوا هذه الدرجة ولا فكروا في أن يكون لهم مثلها، بل لعلهم علموا أن أقدارهم إنما يحققها لهم واقعهم العلمي، والذي عرفه عنهم الجميع، فرجل كالإمام يحيى بن شرف النووي، والذي عاش في القرن السابع الهجري، ولم يعش طويلاً، فقد ولد في عام 631هـ وتوفي عام 676هـ، فعمره الذي بارك الله له فيه لم يتجاوز خمسة وأربعين عاماً، وهو عَلَم في كثير من العلوم، وعلى رأسها علوم الحديث التي له فيها علم غزير، لا يزال طلاب العلم لا يستغنون عما صنف في علمي الدراية والرواية وما شرح به نصوصه، وفي علم الفقه له السبق فيه حتى عد مع الإمام أبي القاسم عبدالكريم بن محمد بن عبدالكريم الرافعي، محققي مذهب الإمام الشافعي، لا يستغني فقيه فيه عما صنعوا، بل لا يعد فقيها فيه من لم يقرأ لهما.
والإمام النووي يصفونه فيقولون: كان إماماً بارعاً حافظاً أمَّاراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، تاركاً للملذات، أتقن علوماً شتى، أفرد العلماء لترجمته رسائل عديدة له من المصنفات من استوعبها كان بها عالماً.
أدرك رحمه الله علوم العربية كلها، وعلوم الشريعة التي هي تخصصه، ورغم قصر عمره فقد نال من العلم ما أخذت عنه عدة شهادات دكتوراة في مختلف العلوم التي نهض بها وبرز فيها، ولا يزال الناس حتى أيامنا هذه يبحثون عما ألف حتى يتقدموا بها إلى الجامعات ليحصلوا على درجة ماجستير أو دكتوراة في تحقيقها فقط، وكلامنا هذا لا يعني أبداً التهوين من شأن هذه الدرجة العلمية أبداً، ولكنا على يقين أنها لا تمنح لحاملها العلم بمفردها، فمن اختار مسألة علمية عقدية مثل (التشبه بالكفار) وظل أعواماً ثلاثة على الأقل يبحثها، ويطلع على ما كتب عنها العلماء قديماً وحديثاً وألف في المسألة رسالة تقدم بها للحصول على درجة الدكتوراة مثلاً فلا يعني أبداً أنه أحاط بالعلم الشرعي كله، كما أن المتخرج في الجامعة في إحدى الكليات الشرعية في تخصص الفقه وأصوله مثلي لا يعني هذا أنه أحاط بعلم الفقه كله في مذاهبه المختلفة، ولكن حصل من العلم ما يفتح له الباب ليواصل تحصيله له، حتى يكون فيه عالماً، مثله مثل ذاك الذي طلب العلم فيمن قبلنا فأخذه عن أهله العلماء فيه وتتلمذ على أيديهم وقرأ عليهم الكتب وأجازوه فيما علموا ولو أنه اكتفى بذلك، ولم يواصل التحصيل لما أصبح قط عالماً، لذا قالوا: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، وقيل إن هذه العبارة كانت من الإمام أحمد بن حنبل الذي قال أيضاً: إنما اطلب العلم إلى أن أدخل القبر، فهو لا ينقطع عن طلب العلم ما دام حياً، وحاشاه أن يدعوه الغرور إلى الانقطاع عن طلبه، لظن أنه بلغ فيه الغاية، فعبدالله بن المبارك رحمه الله يقول: (لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل)، ونسبت هذه الكلمة للإمام الشافعي، والقصد أن الإنسان لكثرة ما اطلع عليه قد يغتر فيظن أنه قد علم كل شيء، وحتماً أن كل البشر يعتريهم النقص، فإذا أقنع نفسه بأنه قد علم دعاه ذلك إلى انقطاع عن طلب العلم فيصبح بقليل ما اطلع عليه جاهلاً.
والدكتوراة مرحلة في حياة طالب العلم لابد وأن تتلوها مراحل أخرى ينوع فيها ما يطلع عليه في علمه الذي تخصصه فيه، فكم من صاحب دكتوراة اكتفى بحصوله عليها، حتى أنه لم يعد يطلع على شيء سوى ما اطلع عليه أثناء مرحلة حصوله عليها، فإذا هو بعد سنوات وكأنه الجاهل، فما كان يدركه نسيه، ولم يضف إليه جديداً، فأصبح خالي الوفاض ولعل هذا ما يجعل البعض ينتقد أساتذة في جامعاتنا حصلوا على الدرجة العلمية وتوقفوا عندها، حتى أنهم لم يتقدموا لجامعاتهم بالبحوث المطلوبة للترقية، ولعله حين تقاعده يتدنى علمه حتى يظن من يتعامل معه أنه من العامة.
واليوم في جامعاتنا خاصة في العلوم الدينية من يعدون رسائل ماجستير ودكتوراة في مسائل قتلها العلماء من قبلهم بحثاً، فما أضافوا إليها جديداً، وإنما أخذوا في ترديد ما قاله الأسبقون، فما استفاد منهم العلم شيئاً، وبعضهم ظن أنه قد علم كل شيء فوقع في الجهل من حيث لا يدري.
ولو أنك تتبعت رسائل ماجستير ودكتوراة في علوم دينية مختلفة لما وجدت فيها جديداً أبداً، بل لعل عرض الأقدمين لها كان لها أوفى وأوضح، لأنهم بها أعلم، وهم عليها أكثر اطلاعاً، وجاء هؤلاء على العقب، فما أضافوا جديداً ولا كلفوا أنفسهم اطلاعاً، فجاءت جهودهم منقوصة، ولو تركوا لنا الاطلاع عليها كما صنفها الأقدمون لأعفونا من تشويه تعمده منهم بعضهم من المتعصبين لآرائهم ومذاهبهم، والذي نطلع على صور جديدة منه كل يوم.
وكم كتاب حققه هؤلاء فانتقصوا منه عبارات وجمل، أو أضافوا له منها مثيلاً، لأنهم ظنوا أعلاماً من علماء الأمة مبتدعة أو فاسدي العقيدة، وأرادوا أن يصححوا لهم عقائدهم، كما زعموا، وكثير منهم لم يسلم منهم عالما إلا ووجدوا له ما يعيبونه عليه، والأمانة العلمية تقتضي ألا نتصرف في مؤلف عالم بما لا يرضاه، فما ألف خارجاً عن مؤلفات الأقدمين من علماء الأمة لم يلتفت إليه أحد، فعمدوا إلى إدخاله في مؤلفاتهم، خاصة منها ما كان تحقيقه رسالة علمية.
وحفظاً لعلم الأولين وجهدهم العلمي نذكر إخواننا بالواجب العلمي أن نستقي تراثهم كما كتبوه، فإذا اعترضنا على ما يقولون تأدبنا معهم، فلم نصدر عليهم الأحكام جزافاً، وشرحنا مذاهبنا وأقوالنا دون أن ننتقص غيرنا، خاصة إذا كانوا من علماء الأمة الأكثر علماً وعملاً، فهل نفعل؟! هو ما أرجو.. والله ولي التوفيق.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store