وجهنا اليوم هو الدكتور محمد بن حامد الغامدي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل، الخبير والمهتم بقضايا ومشكلات المياه والبيئة، والباحث الأكاديمي، والكاتب الصحفي الذي ولد في «الطلقية»، إحدى قرى قبيلة «الرهوة» في بلاد غامد بمنطقة الباحة لأسرة تمتهن الزراعة. ولذلك أصبح قرويًا يعشق الأرض، ويرى مصيره مرتبطًا بها، وأن لكل شيء فيها قيمة واسم ووظيفة.
وللدكتور الغامدي العديد من الإنجازات والكتب والمؤلفات، كما تولى العديد من المهام الإدارية والأكاديمية، من بينها مدير محطة التدريب والأبحاث الزراعية والبيطرية، مدير مركز خدمة المجتمع، رئيس قسم الاقتصاد والإرشاد الزراعي، عميد شؤون الطلاب، رئيس مجلس إدارة صندوق الطلاب، وحاليًا مدير الوحدة الإرشادية الزراعية والشراكة المجتمعية.
التقيناه في «وجوه وشموس» لنلقي ضوءًا على جوانب من حياته وشخصيته، ربما لا يعرفه الكثيرون.. فكان هذا الحوار.
** في دفتر ذكرياتك.. ماذا تتذكرون من حكاية الزمان والمكان لطفولتكم؟
- سؤال يحتاج إلى معد ومخرج لكل أنواع الفنون. تتحدث في السؤال عن الزمان وعن المكان. الحياة زمان ومكان. للزمان ذكريات وللمكان ذكريات. الطفولة زمان ومكان أيضًا. هكذا مع بقية سنين العمر. أذكر قريتي وبيوتها الصخرية. أذكر جميع نساءها ورجالها. أذكر جميع شبابها وشابّاتها من جيلي. أذكر كل أغنامها ودجاجها وحميرها. أذكر ثيرانها وجمالها وأبقارها. أذكر طبيعتها ونواميس أهلها الطيبين. أذكر بيت أخوالي. أذكر واديهم ودروب أوديتهم. أذكر أماكن الشجر والمدر والصخور. أذكر الطرق قبل أن تندثر. فكان لكل شيء في القرية اسم يعرف به. الطيور والصخور والحقول الزراعية. عشت حضارة الكفاف والفاقة. كل بيت وحدة إنتاجية متكاملة. كان في بيتنا الغنم، والبقر، والجمل، والدجاج، وبقية الروافد الأخرى. لنا أراضٍ زراعية هي شرفك ورأس مالك. مصدر الحنطة والزاد، نأكل مما نزرع، ونلتحف مما ننسج. ومن أجل هذه القرية دخلت كلية الزراعة. بهدف خدمة أهلها زراعيًا، ولكن لم يتحقق هذا. بعد تخرجي وعودتي للقرية لم أجدها ولم أجد مزارعها.
ذاكرة الزمان والمكان
** وجوه في الفصل الدراسي وفي زوايا الحي لا زلتم تتذكرونها؟
- هناك أكثر من وجه في أكثر من مكان. عشت في أماكن كثيرة. مازلت أذكر أول أمريكي رأيته في حياتي. كنت أحسبه من الجن. اعتقدت بأنني الوحيد الذي يشاهده. مازلت أذكر أول هندية في حياتي. كانت تلبس (الساري) في أحد شوارع مدينة بقيق. رأيت جزءًا من بطنها فاستغربت. هذه وجوه عابرة. مازلت أذكر أول طائرة ركبتها أثناء الهروب العظيم من القرية، حملني أبي إلى المنطقة الشرقية بواسطتها. طائرة (داكوتا) بصوت مزعج مازال رسمه في ذاكرتي. في تلك الرحلة تعرفت وتذوقت الزيتون لأول مرة في حياتي.
أما القرية ففيها وجوه معروفة لا يمكن نسيانها. تشترك في الصرامة والجدية والعاطفة المكبوتة. مازلت أذكر وجه أستاذي عثمان الشاعر. الأستاذ العظيم في كل شيء. أذكره بكل انفعالاته المفيدة مع كل شيء لا يروق. كان نظاميًا ومنضبطًا إلى أبعد الحدود. مازلت أذكر الانكسار في وجهه مع هزيمة 67 أذكرها بكل حذافيرها.
** قصة أول عمل قمتم به؟
- وجدت نفسي (ابنًا) لأب مسافر وأم ترعى الغنم، كنتيجة كان أول مهنة لي لم تكتب في الحفيظة هي: (راعي غنم محمول)، تحملني أمي على كتفها في جلد ماعز يسمى (الميزب)، تتجول بي خلف غنم الأهل في شعاب وجبال القرية، مثل التلفون الجوال في أيامنا هذه، ولكن في عناء أكبر.
لكن أول عمل قمت به ومازال عالقًا بذهني، قطف ثمار العنب بعد صلاة الفجر مباشرة، لبيعه باردًا نديًا في سوق السبت ببلجرشي. مازلت أحس بألم البرد في أصابعي مع الصباح الباكر. أذكر بفخر أول حرث للأرض بواسطة (ثورين). كان عمي يلقّن ويدرب على مسك المحراث. مازلت أذكر حرصه على تدريبي لكيفية حرث الأرض بخط مستقيم بجانب الآخر، لنجاح تقليب تربة الأرض.
** قصة نجاح لكم تتوقفون عندها؟
- النجاح يقود إلى النجاح ويخلق أملًا جديدًا، وقصة نجاحي في السادسة ابتدائي تستحق مني التوقف عندها طويلًا. فأعتبرها أعظم إنجاز وأهم إنجاز في حياتي. مهدت الطريق أمامي وإلى اليوم. الشهادة الابتدائية كانت السلاح الأمضى الذي فرحت به، وفرحتي بها تجاوزت فرحة حصولي على الدكتوراه.
لكن أيضًا قصة نجاحي في الماجستير ملحمة بطولية اعتز بها. كانت عنوان إرادة. فجرت كل طاقاتي وأبدعت في تفجيرها. بدأت الدراسة في الماجستير بروح الرغبة في النجاح. كنت أعرف أن الفصل الدراسي الأول سيكون المحك الذي سيطلقني كالصاروخ إلى المجد العلمي. أو سيهوي بي في مجاهل الفشل. وقبل بدء الدراسة اتفقت مع زوجتي (حليمة) مشاركتي المسؤولية، فتعلمت قيادة السيارة وحصلت على الرخصة ثم امتلكت سيارة خاصة، اتفقنا أن تتولى هي كل شيء خارج إطار الدراسة، وأن اتفرغ أنا تفرغًا كاملًا للدراسة، مع بداية الدراسة لم أعد أسأل عن شيء، وفي نهاية ذلك الفصل حققت المعجزة بحصولي على امتياز في كل المواد. وهذا لا يعني أن حياتي الدراسية كانت كلها نجاح. فقد تعرضت للفشل وذقت مرارة طعمه، وفي الحقيقة حمدت الله كثيرًا على كل فشل تعرضت له. فبه عرفت قيمة نفسي، ووقفت على قدراتي وإمكانياتي.
وجه الملك فيصل
** أبرز موقف مر عليكم؟
- أبرز موقف رؤية جلالة الملك فيصل رحمه الله في أحد معسكرات الكشافة بمكة. وقتها كنت بالمرحلة الثانوية. كنت مشاركًا في خدمة ضيوف بيت الله. كان جلالته يفتتح معسكر التجمع الكشفي الإسلامي الثاني. وجدت نفسي أمام جلالته وجهًا لوجه في أحد أركان المسرح الذي كان مفتوحًا. بيني وبينه أمتار معدودة. أذكر أن الفقرة كانت لكشافة دولة باكستان. كانوا يقومون ببناء هرم من أجسادهم. فجأة وقع أحدهم. أنهار الهرم. تعالت ضحكات كل من في المنصة. شاهدت صرامة ملامح الملك فيصل. فجأة رفع كفيه وصفق لهم. أنقلب الموقف بشكل حاد إلى الجدية. توقف الضحك. بدأ الجميع يصفق للفريق. الأمر الذي شجع الفريق الباكستاني على إعادة المحاولة. نجحوا في ذلك، ثم نالوا تصفيق جلالته للمرة الثانية. تلك الوقفة أعطتني درسًا ثمينًا. وكانت مشهدًا لموقف لن أنساه.
في هذه المناسبة رأيت الإعلامي المشهور (بدر كريم) لأول وآخر مرة. كنت أبحث عنه بين الصفوف لعلمي أنه يرافق الملك. كانت دهشتي كبيرة عندما سمعته يصف ويتحدث وهو بعيد جدًا عن الملك. كنت أتوقع أن يكون بجانبه. ذلك المشهد أعطاني درسًا مهمًا. فتح أمامي حقائق ساعدت في مسيرة حياتي.
** حادثة لازالت عالقة في الذهن؟
- في صغري وقبل الدراسة، كنت أسمع بعض النسوة يتحدثن عن عجوز أعرفها جيدًا. تستحضر الجن وتعالج الأمراض الجسدية والنفسية، كنت اسمعهن يتفقن على ميعاد لزيارتها بعد صلاة العشاء، في إحدى الليالي تسللت خلفهن في الظلام، إلى أن دخلن أحد الغرف المظلمة، لم يكتشفن أمري، كل واحدة تعتقد أنني مرافق لأحداهن، جاءت الساعة الموعودة، كنت في شوق لرؤية أحد (الجن)، كان هناك سرير يسمى (القعادة)، تنام عليه العجوز، مغطاة بالكامل ببطانية، فجأة بدأ السرير بالاهتزاز، كانت كل واحدة تحمل شيئًا تدسه للعجوز من تحت البطانية، فجأة صاحت العجوز من تحت البطانية بوجودي بينهن، طالبت بإخراجي من الغرفة، فعلوها، رموا بجسمي في مجلس البيت، في الظلام الحالك، خرجت من الباب مهرولًا في الظلام أيضًا نحو بيتنا القريب، كنت أنظر خلفي للتأكد من عدم متابعة أي (جني) غاضب. مازلت أعيش رعب تلك الليلة حتى اليوم.
كتّاب ومقالات
** كاتب يشد اهتمامكم؟
- الأستاذ تركي السديري أحد الكتاب الذين تركوا في نفسي بصمة وطنية رائعة. كنت أيضًا مغرمًا ومحبًا للدكتور مصطفى محمود، قرأت جميع أعماله، تابعت برامجه التلفزيونية** مقال لم تكتبه بعد؟
- مقال (ما بعد الموت)، لن أستطيع كتابته. ولن يستطيع أحد من البشر كتابته. لكنني أعرف ملامحه وخطوط أفكاره العريضة.
** قضية جدلية لم تغلق ملفاتها بعد؟
- النساء في المجتمع قضية جدلية لم ولن تغلق ملفاتها.
د. محمد الغامدي: أول عمل توليته«راعي غنم محمول»
تاريخ النشر: 07 فبراير 2015 01:40 KSA
وجهنا اليوم هو الدكتور محمد بن حامد الغامدي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل، الخبير والمهتم بقضايا ومشكلات المياه والبيئة، والباحث الأكاديمي، والكاتب الصحفي الذي ولد في «الطلقية»، إحدى قرى قبيلة
A A