أعرفُ جيّدًا أنّني أكثرتُ الحديثَ في مقالاتٍ سابقةٍ عن خطب الجمعة، والمرجو منها، خاصّة أنّ بعض الخطباء يحسبُ أن منبر الجمعة ملكًا له، يقدّم فيه ما يشاء، وكيف ما شاء؛ فمن السياسة، إلى لاقتصاد، إلى الرياضة، وما يتّصل بها من تجييش أو تحريض، وما يتبعها من ويلات ومهلكات.
بين يدي كتاب بعنوان "روائع الطنطاوي" عبارة عن مجموعة مختارة من جملة كُتب الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- كما يشي إلى ذلك عنوان الكتاب، جمعها وأعدها الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي، سأستل منها ما يتّصل بموضوع المقال أعلاه.
يقول الشيخ الطنطاوي: "لو كان عُشر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العاملة المنظّمة، لصنعت بها الإعجاب فمَا بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئًا؟ وما أذهب في الاستدلال إلى عرض أوجه الاحتمال، وعندي الواقع الذي ليس فيه جدال، ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المنابر، وكان للرسول -صلوات الله وسلامه عليه- منبر واحد: درجات من الخشب، ليس فيها براعة النقش، ولا فيها روعة الفن، وليس فيها قبة، ولا لها باب، دعا منها فلبّت الدنيا واستجاب العالم، وترب بها على الأرض أعظم أثر عرفه تاريخ الأرض".
ويضيف الشيخ الطنطاوي وعندنا اليوم مئة ألف منبر مبثوثة ما بين آخر إندونيسيا وآخر المغرب، كلها مزخرف منقوش، استنفد جهد أهل العمارة، وعبقرية أهل الفن، وفيها المكبرات والإذاعات تحمل الصوت منها إلى آفاق الأرض، فيسمع خطباؤها الملايين، ولا ترى لها مع ذلك أثر في إصلاح، ولا عملا في نهضة.
فما السر في تلك القوة، وفي هذا الضعف؟
تعالوا نفكر في ذلك جميعًا.
نعرض أحوال هذه الخطب، ونفتش عن حالها، ولا يغضب مني أحد -والكلام للشيخ الطنطاوي- فما أريد الفضيحة، ولا التشهير، إن أريد إلاّ الإصلاح، وأنا بعد واحد من الخطباء لست غريبًا عنهم مبرأ من عيوبهم، وما يُقال فيهم يقال مثله في أنا، ومن أجراك مجرى نفسه فما ظلمك.
ولو سألت من شئت من المصلين عن هذه الخطب لسمعت من طرفًا من عيوبها.
فمن عيوبها: هذا التطويل، وهذا الإسهاب، حتى لتزيد الخطبة الواحدة أحيانًا على نصف ساعة -لا يعلم الشيخ الطنطاوي رحمه الله- أن أصحبنا هنا تجاوزًا في خطبهم الساعة والساعة والنصف، مع أن السنة تقصير الخطبة وتطويل الصلاة، وألا تزيد على سورة من أوساط المفصّل، أي: على صفحتين فقط. وهذه خطبة الرسول، وخطب الصحابة، منها ما هو صفحة واحدة، أو أقل من ذلك.
ويا ليت دائرة الإفتاء، أو الأوقاف، تلزم الخطباء بألاّ تزيد أطول خطبة يلقونها عن ربع ساعة.
ويقول الشيخ الطنطاوي: "وأنا أخطب في مسجد جامعة دمشق فلا تمر ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة على آذان الظهر، حتى تكون قد انتهت الخطبة والصلاة.
ومن عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أن يقوم مقام رسول الله، ويتكلّم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبيّن حكم الله فقط لا آراءه هو، وخطرات ذهنه.
ويعرض فكرة جديرة بالتّأمل والتّنفيذ وفحواها: أنّ على كلّ خطيب يعدّ لخطب الشّهر برنامجًا، يعلّقه على باب المسجد، أو يبيّن للناس على الأقل أنّ خطبة الجمعة المقبلة موضوعها كذا، ومدّتها كذا، ليكون المصلّي على بيّنة من أمره!!
الطنطاوي.. وخطبة الجمعة
تاريخ النشر: 13 فبراير 2015 03:24 KSA
أعرفُ جيّدًا أنّني أكثرتُ الحديثَ في مقالاتٍ سابقةٍ عن خطب الجمعة، والمرجو منها، خاصّة أنّ بعض الخطباء يحسبُ أن منبر الجمعة ملكًا له، يقدّم فيه ما يشاء، وكيف ما شاء؛ فمن السياسة، إلى لاقتصاد، إلى ا
A A