ابتداءً أحبُّ أنْ أُشيرَ إلى أنّ نظامَ الحسبةِ من حيث التَّأليف والتَّنظير حظي منذ القرون الأولى ببعض الاهتمام من قِبل مجموعة من الفقهاء؛ كمحاولةٍ جادّةٍ لوضع ضوابط تخصُّ المحتسب تحديدًا، وما ينبغي له من شروط تتعلّق به، إضافةً إلى الأطر العامَّة لاحتسابه؛ فخرج لنا مجموعةٌ من المؤلفات؛ إلاَّ أنَّها في الجملة مستنسخة من بعضها البعض؛ ناهيك عن اعتمادها على التّنظير وإهمالها للتّطبيق، كما أنَّها اقتصرت على الخطوط العامّة دون الغوص في شؤون النّاس وحماية حقوقهم.
ولعلّي لا أبالغ إذ قلت إنَّ كتاب (نهاية الرّتبة إلى طلب الحسبة) لصاحبه محمد بن أحمد بن بسام، الذي عاش على أرجح الأقوال في أواخر الدّولة الأيوبيّة، وبداية قيام دولة المماليك يُعدُّ من المحتسبين الذين مزجوا في منهجهم بين الرّؤية النَّظرية والمنهج التّطبيقي؛ بل غلب الجانب التّطبيقي عنده على الجانب التّنظيري الصرف، كما أنَّه لم يقصر عمل المحتسب على تتبّع سقطات المجتمع؛ بل صَرَفَ همّه إلى ما يخدم مصالح النّاس ويدفع عنهم كلّ ضررٍ في حياتهم المعاشة.
وليتنا نتعلّم من ابن بسام -صاحب الكتاب- حينما قال: "أعلم وفقك الله لما كانت الحسبة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن منكر وإصلاح بين الناس، وجب أن يكون المحتسب عارفًا بأحكام الشّريعة ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإنّ الحسن ما حسنه الشّرع، والقبيح ما قبحه الشّرع".
وليتنا -أيضًا- نتعلّم من قوله: "ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلاّ بكتاب الله عزّ وجل، وسنّة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم".
وليتنا نستحضر هذه المقولة الممتازة: "وربَّ جاهلٍ يستحسن بعقله ما قبحه الشّرع فيرتكب المحظور وهو غير عالم به".
إنّ ابن بسام لم يغفل المناداة بأنّ على المحتسب أن يعمل بما يعْلم، ولا يكون قوله مخالفًا لفعله، وأن يكون قصده خالصًا لوجه الله تعالى، مجتنبًا منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس لينشر الله تعالي عليه رداء القبول، وألاَّ يخرج عن المواظبة على سنن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وأن يكون شيمته الرّفق في القول، والطلاقة في الوجه وسهولة الأخلاق، عند أمره الناس ونهيه.
إنّ المتتبّع لأبواب ذلك الكتاب يلفيه قد احتوى على مئة وثمانية عشر بابًا كلّ منهم في موضوع مختص، فهناك متابعة الخبّازين والفرّانيين، والسّقايين، والشّوائين، والطّباخين، والفوّالين، والسمّاكين، والطّحانين، والخيّاطين، والغسّالين، والعطّارين، وفي الخشب وباعته، والحدّادين، والنّجارين، والبنّائين، ودلالي العقارات، والدّهانين، والنّحاتين، وفي معرفة الموازين والمكاييل، وغير ذلك ممّا يخدم النّاس، ويحمي مصالحهم يتتبّعها المحتسب ويبيّن ما فيها من غشٍ وتدليس، ذاكرًا عقوبة كلّ واحدة منها.
فمثلاً؛ فمن نقص في المكيال، أو بخس الميزان، أو غش في بضاعة فعقوبته تسير على النّحو التّالي: استتابته عن تلك المعصية، ووعظه وتخويفه، وتحذيره من إسقاط العقوبة عليه والتّعزير به، فإنْ عادَ إلى فعله عزّره على حسب ما يليق به من التّعزيز؛ وذلك على قدر الجناية؛ ولكنَّها لا تبلغ به الحد.
ولا يغفل ابن بسام ذكر قدرة المحتسب كشفًا عن تحايل وتفنّن بعض أصحاب المهن من الغش والتّدليس على عباد الله، والمحتسب في كل هذا يبحث عن كلّ الوسائل والطّرق التي تكفل كشف المدلسين والغشّاشين من الصّناع والتّجار، وكلّما ازدادت حيطة هؤلاءِ وحذْرهم أوجد المحتسب ما يقابل ذلك من وسائل الكشف والتّحري.
إنَّ السّؤال المعلّق بعد هذا؛ لماذا قصر دور الآمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في بعض الجوانب وأهمل جوانب مهمّة تُسْعد العباد والبلاد، وارتهن دوره عند العباءات القصيرة والمخصّرة!، وعند إثبات المحرم من عدمه!، وعند مطاردة المشكوك فيه دون بيّنة!، وأمامنا كم هائل من السّوءات حري برجل الحسبة التّعاطي معها بيان مفاسدها؟!
إلى هيئة الأمر بالمعروف
تاريخ النشر: 27 فبراير 2015 03:11 KSA
ابتداءً أحبُّ أنْ أُشيرَ إلى أنّ نظامَ الحسبةِ من حيث التَّأليف والتَّنظير حظي منذ القرون الأولى ببعض الاهتمام من قِبل مجموعة من الفقهاء؛ كمحاولةٍ جادّةٍ لوضع ضوابط تخصُّ المحتسب تحديدًا، وما ينبغي
A A