Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

علي حسّون وحصّة الزّمن من «الطيبون والقاع» إلى «شبّاك الذّكريات»

No Image

* لقد اشتهرت بيئة المدينة المنورة بقول الشعر وإبداعه منذ العصر الجاهلي، مستدلين على ذلك بما رواه الناقد محمّد بن سلام الجمحي في طبقاته المعروفة نقلاً عن نابغة بني ذبيان بعد أن قدم المدينة، وكان في

A A

* لقد اشتهرت بيئة المدينة المنورة بقول الشعر وإبداعه منذ العصر الجاهلي، مستدلين على ذلك بما رواه الناقد محمّد بن سلام الجمحي في طبقاته المعروفة نقلاً عن نابغة بني ذبيان بعد أن قدم المدينة، وكان في شعره إقواء، فقال قولته المشهورة: «قدمت الحجاز وفي شعري ضعة ورحلت عنها وأنا أشعر الناس»، حيث نبّهه لذلك جواري الأوس والخزرج عندما طلب منهم أن يرتلوا شعره إنشادًا، ويعلّق الجمحي قائلاً: «وأهل القرى ألطف نظرًا، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب، فلم يعد النابغة لذلك العيب الشعري المرتبط بالقافية». ولقد تزاوج الشعر والإنشاد في بيئة المدينة من ذلك الزمن السّحيق حتى هذا العصر الذي نعيشه، ولا بد من العودة إلى زمن النشأة في بلد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حيث نشأنا نسمع بأسرة الوادي المبارك التي كانت الوريث لجماعتين أدبيتين هما، نادي المحاضرات والحفل الأدبي، ولسبب أو آخر لم تنفتح الأسرة على شباب المدينة، وظل الشباك موصدًا تتراءى من خلفه صور القوم في حين لا يقوى على الاقتراب منه من يجدون في أنفسهم نزعة فكرية أو أدبية تتطلب الرعاية والتشجيع. ولعلي استثني بعض الشخصيات مثل: عبدالرحيم أبوبكر، الذي كان يمثل مشروع ناقد كبير، وهذا ما استشرفه فيه أستاذه الناقد الدكتور شكري عياد، أما الآخر فهو أستاذنا محمّد حميدة - شافاه الله -، الوريث لتراث محدث الحرمين الشريفين الشيخ عمر بن حمدان المحرسي المالكي، والذي كان يفتح أبواب مكتبته أمام الراغبين في الاستزادة من فنون الأدب، ويماثله في ذلك الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه - رحمه الله -، كما انفتحت أجيال سابقة ولاحقة على شخصية الشاعر حسن الصيرفي.
* مع منتصف الثمانينيات الهجرية عرفت عزيزنا الأستاذ علي حسون، وكان قد استوى - إن صحّ التّعبير - كاتبًا رياضيًا على صفحات جريدة المدينة، التي ارتأى الشابان - آنذاك - هشام ومحمّد علي حافظ نقلها لـ»جدة»، وذلك عائد لإدراكهما مبكرًا أنّ السياق الفكري والأدبي الذي كان قائمًا منذ خمسينيات القرن الماضي قد أصابه شيء من التبدّل، وحلّ سياق آخر تستوجب مسايرته أو السّير معه.
* وكانت صحيفة المدينة برعاية رئيس تحريرها وأحد منشئيها السّيد عثمان حافظ ومساعده أستاذ الجيل محمّد صلاح الدّين الدِّندراوي تحتضن عددًا من الجيل الأدبي الواعد من أمثال: أحمد محمود، وسباعي عثمان، وعلي خالد الغامدي، وهاشم عبده هاشم، الذي ترجّل أخيرًا تاركًا بترجله أسئلة مفتوحة تبحث عن أجوبة مفقودة، ولقد طوى الحسون أوراقه الرياضية مبكرًا واتّجه صوب الكتابة الأدبية، وكانت صفحة الأدب في المدينة بإشراف المثقّف والأديب سباعي – آنذاك - تحتضن إنتاج كثير من الكتبة الشباب: عبدالله جفري، أنور عبدالمجيد، علي حسّون، سليمان سندي، محمّد يعقوب تركستاني، عبدالله السّالمي، فاروق باسلامة، علوي طه الصّافي، طاهر تونسي.. وآخرين، وخرجت الصحيفة يومًا بعناوين أدبية مثيرة كما أتذكّر وكان ذلك في نهاية الثمانينيات الهجرية وبداية التسعينيات، وأزعم أنّ تلك العناوين اختصرت المشهد الأدبي آنذاك: «العواد مجمرة لم يبق فيها إلا الرّماد»، وعنوان آخر: «الربيع اكتفى بقراءة دواوين العوّاد لينتقدها أبوتراب الظّاهري، عفا الله عنه، وكانت هذه العناوين ممّا حفّز كاتب هذه السّطور ليكتب ممّا يمكن أن ينطوي تحت مسمّى الأدب، ويدفع به للعزيز الحسون، وأذكر أنّه خاطبني ونحن نقتعد أمكنتنا في مجلس حوش فوّاز «هاشم»: «مسرور بما كتبت، وسوف تنشر مقالاتك تباعًا»، وليس من ضير أن أذكر هذا وقد اعترت القلم رعشة، والقلب خفقة، والنّفس غربة، والذاكرة وهنٌ.
* «الحسون» كتب القصّة؛ بل أزعم أنّه من أوائل من جرّب الكتابة الرّوائية والمتمثلة في ذلك العمل الملحمي «الطيبون والقاع»، وكان صدورها قريبًا من صدور «سقيفة الصفا» للأديب حمزة بوقري، وكلاهما كتب على حلقات ونشر على صفحات هذه الجريدة الغرّاء. وأميل إلى أن ما كتبه الجفري والبوقري والحسون هو الذي فتح الباب أمام الجيل الجديد ليكتب الرواية بمختلف أشكالها وتياراتها، وإن كان ما أتى من أعمال تصنف بالروائية لاحقًا يحتاج إلى شيء من التّمحيص عن طريق قراءة نقدية متعمقة ومنهجية وبعيدة عن التحيّز والمجاملة.
* «شبّاك الذّكريات».. الذي نشر حلقاته عزيزنا الحسون تباعًا في صحيفة البلاد خرج بين دفتي كتاب، قدّم له الصّحافي والكاتب المعروف الأستاذ محمّد علي حافظ، الذي اقتعد في السّاحة مكانًا قصيًا، ولعّلي أحسست بشيء من المرارة تنثال مع شيء من حروفه وعباراته حيث يقول: «لقد انقضى من العمر ما لا يقل عن «77» عامًا ولم أشعر في يوم من الأيام في زحمة الحياة والعمل والتنقل أنّ التّاريخ قد عاد بي إلى المدينة المنورة وماضيها وشخصياتها وشخوصها ومسجدها ومجتمعها وشوارعها وازقتها وحاراتها و»أحواشها» إلا وأنا أتصفّح كتاب أخي علي محمّد الحسون، الذي أحسن الظّنّ بي وشرّفني بأن أقدّمه لكم»، ويمكنني أن أقول مؤيدًا ما ذهب إليه «سيّدنا» أنّ أبا الحسين كان وفيًا مع شخصيات جالسها وخالطها قد طبعها المجتمع المديني بطابع المودّة والألفة والرقّة، فالأنصار قوم فيهم غزل كما ورد في الأثر، وإخال أنّ المؤلّف قد أحسن اختيار عناوين فصول كتابه فهو عند حديثه عن فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح ينعته بـ»الصوت الذي تربّينا عليه»، أما السّيد عثمان حافظ فهو «الصّحفي الذي يدع المواهب تبرز»، أمّا السّيد عبيد مدني، فهو «بقيّة النّاس» وهو ما كان ينعته به أيضًا الأستاذ الراوية محمّد حسين زيدان، وعن إبراهيم مظهر، الكاتب الذي خطفه الموت مبكّرًا، وعن السيد إبراهيم الرفاعي، «واحد من عصر الباشاوات»، وعن حلّيت بن مسلم «الصّاخب في هدوئه.. المتبتّل في خشوعه»، وعن السّيد حسين هاشم «سلطان المجلس»، وعن الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز «كاريزما الحاكم»، وعن عبدالعزيز ساب «الإنسان الخلوق».
* بقي أن أذكر أنّ المؤلّف قد استخدم أسلوب السرد في رسمه لتلك الشخصيات، التي أدّت وسواها أدوارًا هامّة في المجتمع الذي عاشت فيه، مبتعدًا ما استطاع عن الإنشائية والتّقريرية التي تجني على بعض الكتابات، التي تتّخذ من الشّخصيات والأدوار التي قامت بها محورًا لها، ويمكنني القول إنّني كنت عند قراءتي لهذه «البانوراما» أحّس بتلك النّسمات النّدية التي كانت في ذلك الزّمن الغابر تنبعث من أزقّة المدينة المنوّرة وأحواشها المتألّقة تآلف ساكنيها وترابطهم بعيدًا عن كلِّ العنعنات والإدّعاءات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store