ليس الأمر تخريفًا ولكنه حقيقة. يتعلق الحديث طبعًا بلوحة بيكاسو العظيمة والتاريخية: نساء الجزائر الكبيرة الحجم نسبيًّا، متر و14 على متر 46، والتي حطمت الرقم القياسي في الغلاء، إذ بيعت بثمن باهظ بلغ بالضبط 179.36 مليون دولار، وهو ما يضعها على رأس أغلى المقتنيات الفنية عبر تاريخ البشرية. فقد بِيعت مؤخرًا في دار كريستيز بنيويورك واشتراها شخص سيظل طي الكتمان لمدة طويلة، وتذهب احتمالات المختصين نحو آسيا والصين وقطر. والغريب أن أمر بيعها بالمزاد، استغرق بالضبط 11 دقيقة، لتخطف اللوحة بعدها أمام دهشة وتصفيقات المئات من الذين حضروا حفلة البيع. وتخطت نساء الجزائر بذلك اللوحة الأغلى عالميًّا، حتى الآن، وهي لفرانسيس باكون: دراسات لوشيان فرويد الثلاثة، التي بيعت في 2013، وفي نفس الدار بـ127 مليون يورو. رسم بيكاسو نساء الجزائر بعد سنة من انطلاق الثورة الجزائرية في 1955، والتي تحوّلت بسرعة إلى حركة نضالية مناهضة للاستعمار، وأصبحت مصدر تعاطف الكثير من الفنانين المعادين للدكتاتوريات والظلم الاجتماعي ومنهم بيكاسو. وهي اللوحة الأفضل والأكمل من سلسلة 15 لوحة تجريبية مستوحاة من اللوحة العالمية المعروفة بنفس الاسم نساء الجزائر في بيتهن لأوجين دولاكروا femmes d’Alger dans leur appartment التي توجد اليوم بمتحف اللوفر، بل ومضادة لها أيضًا، ولشكلها وأيديولوجيتها الكولونيالية الخبيئة التي حصرت المرأة ضمن ديكور شرقي ليس في النهاية إلاّ وجهة النظر الاستشراقية في رؤيتها للشرق الذي كان في عمق تغيراته العميقة. بعمله الفني المستوحى من لوحة دولاكروا، فقد دمر بيكاسو، المعادي للفرانكوية في بلده إسبانيا، تركيبة اللوحة الاستعمارية غير المعلنة، واخترق نظامها واتزانها الداخلي الظاهري الذي ينظر للأشياء في حالاتها الإستاتيكية وكأن العالم الشرقي مثبت على إيقاع واحد وعلى صورة منمطة. فقد حاول بيكاسو من خلال الخمسة عشر تنويعًا أن يقول بجرأة وشجاعة لم تتوفر لدى غيره، ما كانت تعانيه المرأة الجزائرية إبان الحقبة الاستعمارية، وهو ما غاب في لوحة دولاكروا. يقول: حاولت أن أظهر العذاب ومعاناة المرأة الجزائرية التي كانت تتعرض لأفظع الإهانات الاستعمارية. واللوحة التي بيعت هي الأكثر اكتمالاً في المجموعة 15، التي تتجانس فيها الأشكال بشكل دقيق وحي، تبدو فيها التجليات والتقاطعات والتناغم والانسجام بين الأحمر والأزرق والأصفر الفاقع، في عز تألقها. كان بيكاسو يرسم قضية أكثر ممّا كان ينجز لوحة لم يملكها في النهاية إلاّ صاحبها وشخصان من بعده. الذي باعها في دار كريستيز، كان قد اشتراها في 1997 بـ31 مليون دولار.
بقي أن أقول إن هذه هي ليست المرة الأولى التي يتعامل فيها بيكاسو مع الجزائر. فقد كان من وراء واحدة من أهم اللوحات العالمية التي جعلته يصطف بجانب القضايا الإنسانية العادلة: جميلة، التي يقدر اليوم ثمنها بـ400 مليون دولار. أنجزها دفاعًا عن المناضلة الجزائرية جميلة بوباشا. فقد أبدى فيها تعاطفًا كبيرًا مع الثورة الجزائرية ومع جميلة التي حُكم عليها بالإعدام بالمقصلة في 28 جوان 1961، بتهمة وضعها لقنبلة لم تنفجر وقتها لخلل تقني في التوقيت، عُذّبت على إثرها من طرف المظليين الفرنسيين، واغتصبت بأبشع الطرق، قبل أن تقوم هي بنفسها بفضح المعتدين عندما عُرضت عليها صورهم، أثناء محاكمتها، في محكمة كو Caen وتصبح قضيتها بعدها دولية تبناها كتّاب كثيرون وبالخصوص الكاتبتين الفرنسيتين: سيمون دوبوفوار والمحامية جيزيل حليمي، اللتين دافعتا عنها باستماتة فأصدرتا كتابًا باسمها، يتناول قضيتها، واختارتا له كغلاف ليتوغرافيا أو لوحة بيكاسو، عن جميلة بوباشا.
«نساء الجزائر» الأغلى عالميًّا
تاريخ النشر: 18 يونيو 2015 01:29 KSA
ليس الأمر تخريفًا ولكنه حقيقة.
A A