الجريمة واللاّعقاب: حرق الطفل الفلسطيني علي سعد دوابشة

لا يوجد موت الصدفة. كل شيء مقنن وخاضع لنظام ما. ولا يوجد ظلم أقسى من اللاّعقاب. النار العنصرية تلتهم كل شيء في فلسطين، ولا ترحم حتى الرضّع. من بين هؤلاء الطفل الفلسطيني علي سعد دوابشة ذو الثمانية عشر شهراً الذي توفي قبل أيام قلائل، متأثراً بنار الحرق التي سلَّطها عليه المستوطنون المنتقمون لأساطير عمياء لم تكن له فيها أية مسؤولية، في قرية دوما جنوب نابلس. فصلٌ جهنمي يذكر حقيقة بمحاكم التفتيش المقدس التي كان ضحيتها المسلمون واليهود أيضاً، يوم بدأ توركيمادا في إبادة كل من لم يكن مسيحياً كاثوليكياً. ضحية الأمس أصبح اليوم هو الجلاد الذي لم يحفظ شيئاً من التاريخ وكأنه ليس معنياً به أبداً. المحرقة هذه المرة حديثة بكل المواصفات، ومعاصرة، ليست كمحارق القرون الوسطى الهمجية. فقد ألقى المستوطنون العنصريون الذين شكلوا وحدات انتقامية على مرأى ومسمع الكيان الصهيوني، قنابل المولوتوف على فراش الطفل علي سعد دوابشة، وهو نائم حتى تكون الجريمة بلا ملامح ولا تتيح أية فرصة للنجاة. أفراد عصابة «تدفيع الثمن» اليهودية الاستيطانية المدعومة من جهاز نتنياهو الأعمى بصهيونيته، تركت توقيعها على الجدران يجسد عبورها وأثرها إمعاناً في الإذلال والإهانة والإصرار على الجريمة. الغريب في الجريمة الموصوفة هو أنه لأول مرة تعتذر المؤسسة العسكرية الحاكمة عن هذا العمل الذي وصفته بالإرهابي، في مشهدية تراجيكوميدية غير معهودة. لا جديد في ذلك، فالخطاب الإسرائيلي كان دائماً عنصرياً ومبنياً على منطق القوة والغطرسة المطلقة لدرجة أن كل ما ليس إسرائيل كفكر وتسلط، يدخل في خانة الأعداء والمكيدين الذين يريدون تدمير إسرائيل. في ظل هذا العدوان الفاضح، والتطرف الكبير الذي يقف وراءه حزب الليكود وحلفاؤه العنصريون، يصنع نتنياهو المشهد، بإنسانية غريبة بعيدة عنه كل البعد، بعد أن وصلت رائحة احتراق الطفل إلى كل أرجاء العالم، فينعت الجريمة بالعمل الإرهابي. كيف يعتذر من كان وراء كل صفقات الجرائم ضد الشعب الفلسطيني والمدعِّم للمستوطنات والمستوطنين، فهم مناصروه الأساسيون ومنتخبوه أيضاً. يحتاج المرء إلى الكثير من الجنون وتغييب العقل والعبث، ليصدق ما يحدث أمام عينيه. معه خارج فكرة التسويق الإنساني لدولة إسرائيل، كان بإمكان نتنياهو أن يوقف آلته الجهنمية المعتدية باستمرار على شعب أعزل، ويلجأ إلى محاسبة الإرهابيين كما سماهم، ومعاقبتهم لأن الجريمة كبيرة وحرَّكت الرأي العام العالمي بما في ذلك الكثير من الأطراف اليسارية الإسرائيلية. أما بالنسبة للعرب وموقفهم من جريمة شديدة الخطورة حتى من الناحية الرمزية، فلا حدث. لم يعودوا قادرين حتى على عقد الاجتماعات الصورية التي كانوا يعقدونها قبل سنوات ليخرجوا بحفنة هواء ساخن.
فقد تدنى الوضع حتى مسّ الحضيض. من يسمع لصرخة علي؟ الفلسطينيون الممزقون في ظل غياب أي مشروع إنقاذي فعلي؟ هل نطالب مصر بصفتها الرئيس الحالي للقمة العربية بالدعوة إلى اجتماع قمة طارئ؟ وماذا بإمكانه أن يفعل سوى بلاغة جوفاء سيضحك عليها منشئوها قبل أعدائهم الذين لم يعودوا اليوم أعداء وفق المتغيرات الدولية والعربية الجديدة التي قلبت كل شيء، فأصبح الصديق، بقدرة قادر، عدواً والعدو صديقاً. لقد تحول جسد علي الهش إلى رماد قد يتحول يوماً إلى سماد لزمن أفضل لا نراه اليوم، تاركاً وراءه عالماً منهكاً، ممزقاً، بائساً، غير مأسوف على سقوطه، لأنه أصبح عاجزاً كلياً في يومياته، وفي آفاقه المسدودة، ومهزوماً في داخله وأعماقه، يعيش على ثقافة تؤسس وتشرع للموت المقنن. طوبى لطفل لم تكتب له رؤية عاصفة الرماد القادمة التي تسيّج كل الآفاق المرئية للعالم العربي. وطوبى لنار كانت أرحم من نار الإخوة الذين اعتبروا موته لا حدث، فلم يعيروه أدنى اهتمام.