أطفالنا لا يقرؤون، ومأخوذون بالألعاب الإلكترونية، إنّهم يتوجّهون نحو الألعاب والوسائط الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر، هذا الكلام يتردّد على ألسن أغلبية العائلات، وكأنّ المسألة قدريّة، لا يمكن الفكاك منها. مع أن الغرب، وهو خالق هذه الوسائط التي جاءت لتلبية حاجاته الثقافية والنفسية والاقتصادية أيضًا، وربما حتّى العسكرية، يشتكي، لكنه لا يعاني من نفس الخوف. أينما وجهتَ نظرك في المطارات الغربية، والمحلات، والأسواق، وقاعات الانتظار، ومحطات الحافلات والقطارات، وفي القطارات نفسها، والطائرات، الناس لا يتوقفون عن القراءة. الوسائل الحديثة أثرت حتمًا على النظام القرائي، لكن المقاومة العائلية، والمدرسية، والتربوية كبيرة، وتفرض نفسها بقوة في المجتمع. لتخلّي العائلة العربية عن دورها الأساس والمدرسة، شيء من المسؤولية في هذا التدهور. القراءة هي فعل حر بالدرجة الأولى، يتنفس مع الإنسان من لحظة ولادته حتى وفاته، وهي قبل ذلك فعل تربوي يكبر مع الإنسان، من بداية اكتشافه حواسه حتى إدراك مكامنه الفلسفية والوجودية.
من هنا، فالقراءة لا تأتي تلقائيًّا، ولكنها جهد حقيقي تتضافر فيه العائلة مع المؤسسة التربوية. في البلدان المتقدمة السؤال الاجتماعي الأول حسمته الخيارات الاجتماعية التي في ضوئها يتم توجيه الطفل: ماذا نريد أن نفعل بهذا الطفل ليواجه أقدار الحياة؟ أي أن المراهنة على العقل النقدي تبدأ من اللحظة الأولى، وإلاَّ خسرنا الطفل ومعه البالغ.
تبدأ القراءة بتعليم الطفل تحسس الكتاب (من القماش الرقيق عادة)، وشم رائحته، وتلمس صوره النافرة، ويكون ذلك إيذانًا ببداية التعامل مع الكتاب الورقي، والاستمتاع بالقصص التي تقرأها عليه الأم عادة؛ لأن علاقتها برضيعها عضوية، قبل أن يستقل الطفل ويقرأ هو بنفسه بعد أن تكون أمه وأبوه -أيضًا- والمدرسة، قد علّموه ارتياد المكتبات، واختيار الكتب والسلاسل التي تناسب ذوقه وسنّه. القراءة هي في النهاية تدعيم حقيقي لاستقلالية الفرد، من أجل تطوير المهارات اللاحقة، حتّى تتكوّن وتترسّخ العادة التي تطوّرها المدرسة ببرمجة الكثير من الكتب التي يتوجّب على الطفل الاطّلاع عليها، لكن ذلك لا يضرّ في شيء خياراته في المطالعة التي تستمر في الحياة والتطوّر.
من حق العائلات العربية أن تلوم المدارس، والإدارات، والبرامج البيداغوجية بالتقصير في حق أولادها، لكنها قبل ذلك عليها أن تلوم نفسها، وتسأل سؤالاً بسيطًا: ماذا فعلوا من أجل تطوير الذائقة القرائية لأطفالهم؟ لماذا يذهب الشباب اليوم إمّا إلى الوسائط السهلة التي تفرغه من الداخل كليًّا، وتسجنه في كليشيهات جاهزة حتى عن نفسه، وتعمق أوهامه، أو نحو الكتب المضللة المعادية لعقله ولإنسانيته؟ لماذا تجد هذه الكتب والمواقع آذانًا صاغية لدى شباب ضائع. القراءة الحقيقية للفرد هي حماية حقيقية له. الذي لم يقرأ في حياته ديوانًا شعريًّا واحدًا، أو رواية، أو الذي لم يشاهد مسرحية واحدة في حياته، أو استعراضًا موسيقيًّا، أو سهرة فنية، ولم يزر أبدًا معرضًا للرسوم، وممنوع من سماع الموسيقى في بيته، كيف يكون متوازنًا وإنسانيًّا. لهذا تجد الأدبيات الداعشية سهولة في اختراقه، وبث خرافاتها فيه. الطفل العربي يأتي ويكبر داخل مجتمع الحيرة الذي لا يعرف مسالكه المستقبلية، ماذا نريد أن نفعل بأطفالنا اليوم؟ هل نصنع منهم أناسًا يفكرون بعقول حيّة، ومرتبطين بعصرهم، بحواس حيّة تضمن توازنهم واتّصالهم بالعالم الذي يحيط به، أم قنابل موقوتة تنفجر في العائلة، وفي الوطن قبل غيرهما؟ عندما نلغي عقولهم الحيّة تحت مختلف اليافطات الأخلاقية والاجتماعية، فنحن نقتل المستقبل فيهم. من هنا، فالقراءة الإنسانية الدائمة هي صمام أمان من التطرّف المحتمل، وحامية من الانزلاقات الأكثر خطرًا.
انهيار القراءة العائلية
تاريخ النشر: 20 أغسطس 2015 03:13 KSA
أطفالنا لا يقرؤون، ومأخوذون بالألعاب الإلكترونية، إنّهم يتوجّهون نحو الألعاب والوسائط الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر، هذا الكلام يتردّد على ألسن أغلبية العائلات، وكأنّ المسألة قدريّة، لا يمكن الفكاك
A A