من يتأمل صورة الطفل آيلان وهو ملقى على حافة الساحل، خدّه الأيمن على الرمال، بسكينته المدهشة، ولباسه البسيط، يتذكر حنظلة، أو على الأقل هذا ما حدث معي وأنا أقف مشدوهًا أمام صورة لم تُبكني فقط، لكنها أعادتني نحو كل الأطفال الذين عرفتهم، نحوي، لأن أي واحد منهم، منّا، يمكن أن يكون في مكان آيلان. الصدفة فقط شاءت، فاختارت. رأيت حنظلة (ناجي العلي) الذي كفّ أن يكون مجرد رسم ملصق على الأوراق، فأصبح إنسانًا من لحمٍ ودم. الطفل الذي رسم الجرح الفلسطيني والعربي كله في مختلف تحوّلاته حتى اللحظة التي اخترقت فيها رصاصات غادرة رأسه. لا تهم الهوية اللغوية ولا العرقية ولا الدينية؛ لأن القتلة لم يعودوا يطلبون الهويات لاقتراف الجريمة، يكفي أن يكون على وجهك شيء من النور أو من ماء الحياة، لتتحوّل إلى هدف. آيلان لا يعرف أنه كردي، شاءت أقدار التاريخ والجرائم البشرية أن يجد نفسه على أرض عربية أبقته في خانة الأقلية، وأحيانًا بلا هوية، على الرغم من أن أجداده الأوائل وطئوا هذه الأرض منذ قرون، هربًا من همجية يعيدها التاريخ إلى الواجهة في كل لحظة، بأسماء متعددة. آيلان الطيّب سافر بحثًا عن فرح آخر لم يكن يعرف ملامحه سوى أن والده أقنعه بأن وراء البحر سلامًا ونورًا وعالمًا أجمل وأكثر عدلاً وإنسانيةً لا تشبه غبار كوباني. في ذلك الصباح الحار ارتدى آيلان ما وجده من ألبسة جميلة ليتهيأ لاستقبال مدينة أبهى تقع من وراء البحر: شورت أزرق بلون البحر، تريكو أحمر مثل لعبته التي أخفاها تحت الخزانة القديمة لحمايتها من القصف الذي يأتي من كل الجهات، كما كان يفعل هو كلما سمع أزيزًا في السماء حتى أصبح الأمر مجرد لعبة، وينتعل حذاءً من جلد متين مقاوم للحجارة وشقوق الأرض، وشعر أتقن والده حلاقته، وحلم كبير بحجم ما رُوِيَ له من حكايات كثيرة، عن مدينة ناعمة تقع وراء البحر. خطوة واحدة تكفي لإدراكها. لم يكن البحر رحيمًا لأن المدينة التي رسمها آيلان ظلت في رأسه حتى سافر محتضنًا تفاصيلها في صدره كما اللعبة. في النهاية نجا الأب عبدالله بجلده، كما يفعل الآباء عادة في مثل هذه الظروف، بينما توفيت الأم ريحانة متشبثة بطفليها، آيلان وأخيه. من يتأمل الصورة يشعر بأن الطفل لم يتخبط أبدًا وهو يُواجه الموت، كما يفعل الكبار. لأنه حتى آخر لحظة، كان يظن أن ذلك جزء من الرحلة، وأن البحر لا يغرق الأطفال، وأن أسماك القرش التي يخافها الجميع، لا تقربهم، وأن الحروب لا تمسهم، يكفي أن يتخفوا تحت الخزانات أو يناموا في أحضان أمهاتهم، لأنهم أطفال، وأن الحرب التي صنعها الكبار لن تأكل إلا الكبار. من يتأمل الصورة، يراه نائمًا فقط كما يفعل كل الأطفال في سنّه، يتقلبون كثيرًا في فراشهم، قبل أن يناموا على بطونهم في وضعية آيلان نفسها. وجه على الرمال بشكل يسمح له بالتنفس، يدان ممدودتان إلى الوراء في استرخاء كلي، وساقان مطويتان قليلاً عند الركبتين. مجرد غفوة وسرعان ما يستيقظ يسأل عن أخيه الذي يلعب معه عادة، وعن أمه. لن يسأل كثيرًا عن والده لأنه يعرف أنه داخل غبار الحرب. من سرق طفولة آيلان وغفوته البريئة؟ أرض لم تعرف كيف تحميه؟ قتلة داعش؟ البؤس التركي؟ القصف الأعمى؟ أم نفاق أوروبا التي فككت كل شيء وأبقت الدكتاتوريات التي تربت في عزها، في أمكنتها؟ أم المال العربي الذي يهدر في الفراغ؟ كل هؤلاء قتلة، بدرجات متفاوتة. لا أحد بريء لا من جرح آيلان ولا من رصاصات حنظلة. لا أحد، ولا حتى نحن، ببلاهتنا وصمتنا وتواطؤنا الخفي مع زمن القتلة.
غفوة آيلان في دم حنظلة
تاريخ النشر: 10 سبتمبر 2015 00:30 KSA
من يتأمل صورة الطفل آيلان وهو ملقى على حافة الساحل، خدّه الأيمن على الرمال، بسكينته المدهشة، ولباسه البسيط، يتذكر حنظلة، أو على الأقل هذا ما حدث معي وأنا أقف مشدوهًا أمام صورة لم تُبكني فقط، لكنها أعا
A A