يعاني النشر في العالم العربي من الكثير من المعضلات التي تبدأ من الطباعة والتوزيع، وإيجاد القارئ المُحب للكتاب، وتنتهي بحقوق المؤلّف، والعقود التي لا تساوي أكثر من الحبر الذي كُتبت به، ولا تعني شيئًا لأنّها قليلاً ما تنفذ على أرضية الواقع. مشكلة الناشر العربي الكبرى وطامته، هي أنه لا يُخصِّص مليمًا واحدًا للدعاية للكتاب، وينتظر من هذا الكتاب أو ذاك، أن يتحرّك من تلقاء نفسه، أو يطير بجناحين مقصوصين. هذا يعني، كتحصيل حاصل، أن الكُتَّاب المعروفين هم وحدهم مَن يجدون قُرّاءهم؛ لأنّهم ليسوا في حاجة إلى دعاية كبيرة لأعمالهم الجديدة، فأسماؤهم تسبقهم، وقُرّاؤهم موجودون. هذا يعني أنه لا رهان للناشر العربي على الأسماء الجديدة، لأنه يخاف الخسارة، ولا يتجاسر للدفاع عنها، إلاَّ إذا رفعتها الجوائز وقدمتها لقرّائها، هنا يتغيّر الوضع. لهذا فالجوائز في مثل هذه الحالات مسألة ليست فقط مهمّة، لكنها حيوية. الناشر العربي يجد ضالّته في السهولة التي استشرت حتى أصبحت قانونًا. فأكبر شيء يقوم به اليوم، هو الإعلان عن العمل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، الفيسبوك تحديدًا، لا أكثر، وهي طبعًا لا تكفي، بل لا شيء في سياق الدعاية الحرفية للكتاب. فكثيرًا ما تكون جدواها منعدمة إذا لم تصحب بجهد فني حقيقي. طباعة كتاب، معناه جوهريًّا، المراهنة عليه ثقافيًّا وتجاريًّا أيضًا. وهذا يتطلّب مالاً معتبرًا، وليس كلامًا عامًّا. لهذا هناك ألعاب أصبح الناشر العربي يتقنها لأنها تُريحه وتُقوِّي غرور الكاتب، حتى أصبحنا نصدّق جدوى الفعل، لأن السائد هو هذا.
بدأ الكُتَّاب يستكينون لوهم جميل علاقته بالحقيقة الموضوعية واهية. فتحوّل الوهم اللذيذ إلى حقيقة ربما لأنها تلعب دورًا دعائيًّا للكِتَاب في غياب الوسائل الحقيقية للدعاية، كما في الغرب في التليفزيون، وتنظيم لقاءات البيع بالتوقيع واللقاء مع جمهور القرّاء. فالكِتَابُ العربيُّ الذي يُحقِّق طبعات عديدة يكون مرغوبًا فيه ومطلوبًا.
الكثير من الروايات بمجرد أن تنزل إلى السوق، تكتب عليها الطبعة الرابعة، أو العاشرة، وكثيرًا ما يكون عدد الطبعات مجتمعة لا يتجاوز الألف، أو الألفي نسخة، كما سمعت من أصدقاء ناشرين في مصر، ولبنان، والأردن، وغيرها. المقصود هنا بالطبعة، هو السحب بكل بساطة. في الغرب يكون السحب الأول بالنسبة للكتاب الناجح، أو «البيست سيلر» ليس أقل من خمسمئة ألف نسخة. ممّا يعني بالحساب العربي للطبعات، الطبعة الخمسمئة، وهو شيء مضحك. لو كانت الدعاية حقيقة للكِتَاب العربي لكانت الطبعة الأولى على الأقل مليون نسخة، لأن اللغة الثلاثمئة مليون عربي هي وحدها طريق تحتاج فقط إلى من يسلكه بتبصّر وعقل وذكاء. لكن هناك معضلة تحتاج إلى فهم. هي عجز الناشر العربي على أداء مهامّه كناشر حقيقي، وتحوّله في الكثير من حالاته إلى بقّال. والمفروض أن يُرافق الكِتَاب طباعةً وإشهارًا وتوزيعًا، ويحفظ حقوق الكاتب، ويعمل على اكتشاف المواهب الجديدة. كل المواهب الجديدة في السنوات الأخيرة اكتشفتها الجوائز في العموم وليس الناشرون، إلاّ فيما ندر، لأن الناشر العربي يُحب المال، ويخاف من المغامرة. الرعاية التي يبديها الناشر الغربي للكاتب الشاب كبيرة جدًّا، وهي من يصنع ليس الموهبة ولكن مسارها وسط عالم الضجيج والكتابات الكثيرة. هذا الاهتمام هو ما دفع كبيرة مثل غاليمار إلى المغامرة مع الكاتب الشاب، جوناتن ليتل، ومتابعته حتى حصوله على الغونكور. الشيء نفسه قامت به دار آكت- سود التي راهنت على الكاتب الجزائري الشاب، وأوصلته إلى القائمة القصيرة للغونكور، ثم حصول نصّه على غونكور العمل الأول. هذه الجهود المكلّفة ليست مجانية، ولكنها تؤمن بالموهبة التي تدافع عنها وتعرف أن كل ذلك سيعود بالنفع على الدار من خلال الجوائز وبيع الكتاب. متى ينتبه الناشر العربي إلى هذا كله، ويجعل من النشر غاية ثقافية ومادية وحضارية؟!
أوهام النشر في العالم العربي!
تاريخ النشر: 17 سبتمبر 2015 00:15 KSA
يعاني النشر في العالم العربي من الكثير من المعضلات التي تبدأ من الطباعة والتوزيع، وإيجاد القارئ المُحب للكتاب، وتنتهي بحقوق المؤلّف، والعقود التي لا تساوي أكثر من الحبر الذي كُتبت به، ولا تعني شيئًا ل
A A