الكثير من القضايا تدفع إلى التأمل والتساؤل في ثقافتنا وحياتنا على الرغم من أنها تمر عادية وهي ليست كذلك. تحتاج إلى الكثير من الوقفات لأنها مهمة بل وأساسية ليكون المجتمع متوازنًا. أثارتني هذه القضية وأنا في مكتبة المكفوفين في جنيف، قبل سنة، التي نظمت لقاءً ثقافيًا للاحتفاء بالقراءة بوصفها مجالًا للحياة والتخييل واكتشاف عوالم جديدة، وكانت الجهة المستهدفة هي المكفوفون. التقى في هذه الندوة الكتّاب والمبدعون للقصص وللفعل الثقافي، ومنتجو الكتب السمعية البصرية، أو تلك المسجلة بأصوات فنانين كبار، معروفين في تخصصهم، ويشكلون مرجعًا ثقافيًا لعموم المجتمع، أو بأصوات كتاب متطوعين جعلوا من الكتاب مادة قريبة وفي متناول المكفوف الذي لا يطلب إلا أن يكون طبيعيًا. حضرت اللقاء دور نشر متخصصة من أمريكا اللاتيتية، طبعت آلاف الكتب بواسطة هذه القناة، أي قناة القراءة الحرة التي تستهدف المكفوف وتمنحه فرصة كبيرة لتخطي الظلمة وصعوبات القراءة الكلاسيكية التي تفترض وجود عين سليمة. فوفرت للمكفوف الكتاب ذا الحرف النافر، الذي يستطيع مطالعته بواسطة اللمس اعتمادًا على نظام برايل. كل الفعاليات الثقافية الوطنية في سويسرا تمنح أصواتها للمكفوفين وتعوض المكتوب بالبرايل بالسماعي، فتعطي للنص حياة أخرى تعتمد هذه المرة على السماعي. ولا تتقاضى هذه الفعاليات أي مليم مقابل عملها الخيري، وتقدم هذه الخدمة تعاطفًا مع هذه الفئة الشعبية المحتاجة إلى هذه المساعدة. فقد التقى الجميع في مؤتمر جنيف، على منصة واحدة مع القارئ المكفوف الذي ينتظر طويلًا مثل هذه اللقاءات التي تعيد له اعتباره في عالم مُعقَّد. الفكرة من اللقاء كانت هي إسماع القارئ المكفوف النصوص الجديدة التي نشرت، والتي أصبحت في متناوله عن طريق الوسائط الفنية الحديثة. تتوزع هذه الكتب بين النص الوطني والأوروبي والعالمي، من البيست سيلر إلى الكتاب العلمي والنفسي وغيره، الذي يحتاجه القارئ وإن كان حظ الروايات كبيرًا. حضور بعض كتاب النصوص منح القراء المكفوفين فرصة كبيرة لكي يكونوا حاضرين بأسئلتهم التي كانوا يودون طرحها على الكتّاب، وحتى على الفنانات والفنانين الحاضرين. لأول مرة يضع القارئ المكفوف شيئًا ماديًا على علامة اسم الكاتب، أو على صوت، وإن لم يلمسه لكن إحساسه وحده بحضوره يجعله ليس فقط قارئًا ولكن إنسانًا حيًا، لهذا، لا يقل صوت الفنان القارئ والمتطوع قيمة عن كاتب النص، لأنه وسيطه الحقيقي، إذ بدونه لا يصل الكتاب ولا الكاتب. وظهر أن ملكة الاستماع توفر بعض الراحة ليس فقط للمكفوف ولكن حتى للقارئ العادي الذي أصبح يميل إلى رؤية القصة فيلمًا أو مسموعة، نظرًا لانعدام الوقت وصعوبة الفعل القرائي. الوسائط الحديثة تمنح هذا النوع من القراءة. هناك القراءة الآلية التي اتفق جميع المشتغلين في المجال التربوي، على أنها وإن كانت مفيدة، فهي لا تخلو من الجانب الآلي الذي يفقدها روحها وإنسانيتها. وتحتاج إلى مزيد من الأنسنة. لأنها في النهاية كلمات مكتوبة ومنطوقة يتم تجميعها وفق تقنيات حديثة. أنسنة القراءة مسألة في غاية الأهمية في تدعيم العلاقة الحميمية بين القارئ المكفوف والفنان الموصل للنص إلى المكفوف. اللغة الآلية لاحياة فيها إلا توصيل المعنى. هناك خوف من طغيانها المستقبلي لأنها الأقل تكلفة والأسهل. حضور الفنانين والكتاب وجمعيات مساعدة المكفوفين، ومنتجي الكتاب السمعي أو المكتوب بالبرايل أعطى للقاء جدية حقيقية. كانت الفرحة تُقرأ على ملامح القراء المكفوفين وهم يشغّلون حاسة السمع بقوة لحفظ نبرات كاتبهم المفضل أو غنّة الفنانة المسرحية التي تطوعت لقراءة كاتبهم المفضل ووضعه تحت تصرفهم. فماذا عن قارئنا العربي المكفوف الذي ليس أكثر من سقط متاع، وكأن العطب البصري هو في النهاية عقوبة إلهية، وليس حالة يمكن أن يُصاب بها أي منّا. لا إعاقة في النهاية يمكنها أن تحرم الإنسان من دخول حديقة القراءة إذا توفرت مثل هذه الإرادات الإنسانية.
العطب البصري وإمكانات القراءة
تاريخ النشر: 05 نوفمبر 2015 00:44 KSA
الكثير من القضايا تدفع إلى التأمل والتساؤل في ثقافتنا وحياتنا على الرغم من أنها تمر عادية وهي ليست كذلك. تحتاج إلى الكثير من الوقفات لأنها مهمة بل وأساسية ليكون المجتمع متوازنًا.
A A