في الكثير من المنتديات الثقافية ذات القيمة العلمية العالية، أجدني في وضعية لا أحسد عليها، لا تكفي فيها الإجابات الدبلوماسية التي تدفع بنا مجبرين إلى مسك العصا، ليس من الوسط ولكن من أحد الطرفين، بشكلٍ متناوب، والتحرُّك جيئةً وذهابًا، بحيث لا تسقط العصا من اليد، وتظل في وضعها العمودي. لهذا كثيرا ما نحتاج إلى أن نوقظ فينا، فعل المحبّة، مع الانتصار للصراحة التي كثيرًا ما تُغضب بعض من يُحبّوك، وتُذكي شعلة مَن يختلفون معك، من النقاد على وجه الخصوص. في كل جلسة تقريبًا يُواجهني هذا السؤال التقليدي: لماذا سرقتك الرواية على حساب العمل الأكاديمي الذي كنتَ متفوقًا فيه بحكم لغاتك المتعددة وعملك الجامعي؟ أجيب بملء قناعتي، وبالكثير من الخجل من أصدقائي النقاد الذين أكن لهم كل الاحترام والمحبة. البحث والرواية أنانيان صعب جمعهما، على الرغم من التقاطعات التحتية. هذا يعني ببساطة أننا عندما نختار شيئا، نحتاج إلى أن ننتمي له بكل ما تملك من قوة وعقل ووجدان. أعتقد أنه كانت لي الجرأة الكافية، والتبصُّر المعقول، لأرى ذلك بوضوح وأتّخذ فيه قرارا نهائيا وأنا لست على يقين من نجاح مهمتي في الكتابة التخييلية التي اخترتها. أوقفتُ البحث العلمي، والانتماء لفرق بحث علمية في فرنسا أو في الجزائر. خرجتُ من شبكات المخابر العلمية التي كنت مشرفًا عليها والمتعلقة كلها بالسرديات، والمصطلحية، والترجمة، والمناهج النقدية. حتى تلك التي أسّستها، مثل فرقة بحث رصيف: RASEF (Roman Algérien, Sociétés Et Formes) الرواية الجزائرية، المجتمع والأشكال، تخلّيتُ عنها لطلبتي في الدكتوراه، ولزملائي من الأساتذة الجامعيين. ولم أحتفظ إلا بالسّيمينير العلمي حول الرواية وتحوّلاتها، عالميًّا وعربيًّا، الذي يدخل في ممارستي الجامعية. وانتقلتُ نهائيًّا إلى الإبداع، وخصصتُ كل وقتي المتبقِّي للكتابة الروائية التي أشعر نحوها بانتماء حقيقي. هذه في النهاية، خيارات شخصية قاسية لأن فيها بترًا كبيرًا علينا أن نتحمّل تبعاته. طبعا النشاط الأكاديمي مفيد ومساعد في تنوير العقل وإغنائه بالمنجز المعرفي الإنساني، وهو ما يفتح الرواية على آفاقٍ أوسع، ويسمح لها بالدخول في أعماق القضايا التي تشغلنا ككُتَّاب وكمواطنين وكبشر أيضًا على وجه هذه الكرة الأرضية التي تهمّنا المصائر التي تخطها لنفسها ولنا، في عالم يغلي ويتحرّك بقوة نحو حتفه في الكثير من مناحيه. ما الذي يمكننا أن نفعله؟ لم يَعُد الكاتب مهتمًّا بالكتابة فقط، فهو يُعيد أنسنة مجتمع بشري بدأ يفقد توازنه، ويعود إلى توحّشه المرجعي. البحث العلمي في هذا السياق، مهم جدًا كسند معرفي، لكنه لا يصنع الروائي، ولا يُؤنسنه مطلقًا، لأن الرواية تظل عالما تخييليا بالدرجة الأولى، وهذا ما لا يجب نسيانه والتعامل معه بقوةٍ وذكاء، وإلا سنخسر الأكاديمي ونخسر الروائي أيضًا. أن نختار هذا المسلك معناه أن نُدرك في داخلنا أننا لم نُخلَق له ولكن لشيءٍ آخر، ربما كان أكثر تعقيدًا، وأكثر توغُّلًا في الأعماق. البحث العملي يحتاج إلى تفرُّغ كلِّي وليس فقط الدرس الجامعي، إلى امتلاك القدرة على هزّ اليقينيات وتحريكها باتجاه القلق الوجودي، وإلا كيف ستتطوّر البشرية؟ ما وجدته في جهودنا الأكاديمية العربية هو في الأغلب الأعم، إعادة إنتاج لما تم إبداعه غربيًا من حيث النظريات. لا يمكننا أن نظل بين كرسيين ونحن نرك أن أحد الكرسيين لم يُخلَق لنا ولم نُخلَق له. الكثير من الزملاء الجامعيين كتبوا الرواية لكنهم أخفقوا فيها؛ لأن العقلية التعليمية في الكتابة ظلَّت هي الطاغية، حتَّى تحوّلت الرواية إلى درسٍ تطبيقي لما يشغلهم معرفيًا. العوالم تختلف جوهريًّا. الروائي يخسر مشروعه الأدبي إذا سقط في التنظير، ويقتل قارئه، إذ يدفع به نحو الملل والهرب منه والتخلِّي عنه. طبعا ما أقوله نابع من تجربة فردية لا يمكن تعميمها، هناك من الروائيين من نجح في الاثنين، مثل أمبرتو إيكو السيميائي الإيطالي الذي كتب واحدة من أهم الروايات العالمية: اسم الوردة. لكنه بعدها لم يفلح كثيرًا؛ لأنه ظل منتميًّا للبحث السيميائي بقوة، من خلال أعماله الكبيرة: النص المفتوح والقارئ في الحكاية واحدة من رواد المدرسة الإيطالية في نظرية القراءة.
لماذا الرواية وليس النقد؟!
تاريخ النشر: 04 فبراير 2016 00:20 KSA
في الكثير من المنتديات الثقافية ذات القيمة العلمية العالية، أجدني في وضعية لا أحسد عليها، لا تكفي فيها الإجابات الدبلوماسية التي تدفع بنا مجبرين إلى مسك العصا، ليس من الوسط ولكن من أحد الطرفين، بشك
A A