تسمى اللغة العربية لغة الضاد. لأن هذا الحرف كما وصلنا من الموروث الثقافي المحلي هو خاصية عربية لا توجد في لغات العالم الأخرى. بغض النظر عن المبحث اللساني العربي المتخصص في الموضوع من موقع التوافق أو الاختلاف، تظل الضاد المعنية في المقولات القديمة، غير ضاد اليوم التي هي عبارة عن دال مفخَّمة لا يستحسن، كما يقول فقهاء الدين، قراءة القرآن أو الشعر العربي القديم بها، لأنها لا تفي القراءة حقها في معتقدهم. الضاد المقصودة التي عبرت الذاكرة الجمعية والتصقت بالتربية كحالة تمايز شيء آخر لا علاقة له بالممارسة اللغوية المتداولة. أي أن هناك إقرارًا مبدئيًا بصعوبة هذا الحرف، وبالتالي الهرب منه بتخفيفه. يقول أصحاب الاختصاص إنه صوتٌ آخر، مزيجٌ بين الظاء واللام، واندمج هذا الصوت مع الظاء في الجزيرة العربية لأداء وظائف نطقية محددة. ولأن الظاء هي ذال مفخمة، أي أنها حرف ما -بين- أسناني، فقد تحولت بدورها في الحواضر إلى دال مفخمة كتحول الثاء إلى تاء والذال إلى دال، وصارت هذه الدال المفخمة هي الضاد الحديثة التي لا علاقة لها جوهريًّا بالضاء- المفخرة التمايزية. هذه الممارسة اللغوية الحديقة ألغت مبدأ الخصوصية لأن النظائر الشبيهة للدال موجودة في الكثير من اللغات العالمية. فهي ليست الضاد الأصلية التي حددها المتنبي ولا ابن منظور، في مؤلفه المركزي: لسان العرب. فهناك إذن تحايل أبقى المقولة سارية كلما تعلق الأمر باللغة العربية، وغيّر الممارسة اللغوية اللساني نحو حروف قريبة من الضاد ولكنها ليست هي. هذا يعني ببساطة أن حرف الضاد الذي كان ميزة أصبح في عصرنا إعاقة، لأننا عجزنا كعرب في استعماله نظرًا لصعوبته وعجز لسان اليوم النطق به. وتظهر هذه الاستحالة في تعليم العربية لغير الناطقين بها؟ بقدر ما كان حرف الضاد ميزة للتفاخر، أصبح في عصرنا جزءًا من أزمة اللغة العربية وعقدتها. ما كان ميزة لها مبرراتها التاريخية في ظل المجابهات اللغوية والحضارية، جعل اللغة العربية لغة مجموعة محدودة بدأت تهجرها، ويكفي أن نرى توجُّه العرب نحو لغتين كبيرتين على حساب العربية: الفرنسية بالنسبة للمغرب العربي، والإنجليزية بالنسبة للمشرق العربي وبلدان الخليج. لاشك أن اللغة العربية قيمة ثقافية وحضارية ودينية كبقية لغات العالم. وحياتها منوطة باستعمالها وتسهيل تداولها. هناك خوف حقيقي على اللغة العربية بسبب صعوبة الاستعمال. عشرات اللغات تنطفئ كل سنة. السبب هو نفسه. هجر هذه اللغة أو تلك من ذويها بسبب التعقيدات التي لم تعد لها ضرورة في زماننا. تتضاءل في البداية هذه اللغات منسحبة بهدوء من مشهد الحياة اليومية قبل أن تنزوي في الاستعمالات الدينية الضيقة، قبل أن تنطفئ. للحفاظ على إدامتها حية ومنتجة، عمل الإنجليز على تشذيب لغتهم وتبسيطها لدرجة السهولة. نزعوا عنها كل حواشيها التي كانت تثقلها في الرسم والمبنى والتركيب والمعنى. حتى لأن اليوم الكثير من المخضرمين من الإنجليز يتنهَّدون بحزن: أيننا من لغة شكسبير. لكن ما نفع شكسبير على قؤمته الأدبية والمسرحية، إذا جعل من هذه اللغة التواصلية، لغة الصفوة الصافية؟ تأمُّل بسيط يجعلنا نُقر كم أن الجهد اللغوي والجرأة والاندفاع الواعي، كانوا بردًا وسلامًا على المستوى الثقافي والتجاري بالنسبة لبريطانيا وأمريكا. من لا يعرف اللغة الإنجليزية في عصرنا المُعقَّد والصعب، يجد نفسه بالضرورة، خارج الفعل الحضاري المنتج للمعارف والتجديد. وهو ما دفعها لغير الناطقين إلى تعلمها، لأن الوسائط التربوية سهلة لدرجة يمكننا أن نتعلم لغة ما ميسرة في ظرف من ثلاثة إلى ستة أشهر. الفرنسيون حاولوا مجاراة الإنجليز فاجتهدوا لتيسير اللغة، لكن محافظتهم على مستوى الأكاديميات الساهرة على اللغة، تمنعهم لأنهم يتعاملون مع اللغة بالشكل التقديسي، الأمر الذي دفع نحو دائرة العزلة. لكن الشعور بضرورة التغيير هو العتبة الأولى للانتصار على فكرة تجميد اللغة؛ لأن إذا عجزت الأكاديمية في التخطي، فالشارع يسير وفق إملاءات الحاجة ضاربا عرض الحائط بكل الضوابط المعطلة.
كل اللغات اجتهدت للتخفيف من الأقفال التي تعيق تطورها وتعلمها، الصينية والعبرية والإسبانية وغيرها، فتعرَّضت لعمل إصلاحي بتري داخلي كبير. اللغة العربية تقع أيضًا داخل هذا التجاذبات. الممارسة اللغوية تخطَّت صعوبة الضاد بتقريبها من حروف مشابهة نطقيا، ولم يعد يهمها كثيرًا حرف الضاد بالمواصفات التي طرحت سابقا. فمتى يكون هذا الإصلاح شموليًّا حتى تصبح اللغة العربية ليس فقط عالمية، ولكن أيضًا لغة الحياة، والحضارة والمنتج الفكري، وغير مهددة بالانقراض الذي سحب نحو قبره مئات، بل آلاف اللغات الإنسانية.
الضاد؟ هذا الحرف العربي المستحيل
تاريخ النشر: 03 مارس 2016 00:50 KSA
تسمى اللغة العربية لغة الضاد. لأن هذا الحرف كما وصلنا من الموروث الثقافي المحلي هو خاصية عربية لا توجد في لغات العالم الأخرى.
A A