هل أخطأ العرب طريقهم عندما حددوا أولوياتهم للتطور وخياراتهم الثقافية والحضارية؟ لماذا تخلّفوا عن غيرهم من الأمم؟ مع أنهم كانوا سباقين حضاريًا وثقافيًا في قدراتهم على التعامل مع الآخر المختلف، والاستفادة من منتجه الثقافي. نستطيع طبعًا أن نطرح مئات الأسئلة من هذا النوع التي تصطدم كلها بحائط الخوف من المستقبل، بدون أن نصل إلى فهم حقيقي وجوهري يفتح المسالك نحو تطور ممكن. بعد إخفاق خياراتهم، أصبح العرب اليوم طعمًا للكثير من الخسارات البنيوية، ثورات أخفقت في الاستمرار في المشروع التحرري الذي رفعته، تناحر داخلي، حروب أهلية خطيرة بلا أفق، وتمزقات إقليمية غير مسبوقة، وعسكرة للدول العربية. لم يعد رهان التنمية هو الأساس ولكن السباق المحموم نحو التسلح. العرب اليوم في عمق السياسة، لكن أية سياسة؟ تلك التي تقدمهم، أم تلك التي تسحبهم نحو القاع والموت؟ سياسة وحيدة منتهجة عربيًا، تلك التي تقتل كل يوم ما تبقى من إرادة جماعية وقومية. النتيجة المدمرة واحدة. الخطابات السياسية المنتجَة في هذا السياق، تنضوي تحت إرادة المهيمن والمسيطر على الدولة ليس كمؤسسة مستقلة ولكن كجزء من النظام العام. لهذا أي خطاب أدبي أو إبداعي وفيّ لقيم الإبداع والخلق والحرية، سيجد نفسه على الطرف النقيض من هذه الخطابات السياسية، أي في موقع العداء والموت المحتمل، أو الحرب الافتراضية ضده. من هنا، فالمبدع في العالم العربي لا يربي الكثير من الأوهام حول مسألة حرية التعبير في مجتمعات بنيت جوهريًا على النقيض من ذلك ومتصارعة في فرض نموذج المواطنة يريده المثقف الحر، ويُحاربه المثقف الوظيفي. لا مهرب اليوم أمام المبدع العربي الحر والخلاق، بحر الموت أمامه، وعفن الأوضاع وراءه، فماذا يخسر في النهاية في وضع كهذا؟ يصبح التطرف هو المآل لكل الأشياء. لن يخسر إلا جسده أو بقاياه. لا قوة له إلا قوته الباطنية الإبداعية، وهو يعرف مسبقًا أنه غير مرغوب فيه أبدًا في الحلقات الصغيرة المتواطئة، ومكروه رسميًا لأنه ينغص على الذين يعيشون رفاها وهميا على حساب كمّ من البشر، يموتون يوميا بلا قيمة، لا لحياتهم ولا لأجسادهم ولا حتى لأحلامهم التي يولدون بها ويعودون أيضا بها. النشرات العربية والأجنبية تعج بالتفجيرات التي تأخذ في طريقها العشرات، والاغتيالات والاختطافات. يبدو أن دم العربي ابتذل حتى لأنه لم تعد له قيمة تذكر. وأصبح مجرد خبر عام في النشرات عبر العالم. لا اختلاف أن يموت خمسون أو مائة. مجرد أكوام لحمية تردم في قبور جماعية تحفر على عجل. يجد المبدع العربي نفسه، في ظل هذه الأوضاع، منخرطا في الفعل المضاد للخطاب المهيمن أو ما يطلق عليه اليوم ريال بوليتك التي تعني ببساطة أن تقبلَ بما هو أمامك إن أردتَ أن تستمر في الوجود والحياة. المنجز الأدبي العربي، في هذا السياق، ليس إلا جزئية صغيرة من هذا التضاد، والانتفاض ضد الخوف المعمم والتكميم، يحاول أن ينصت للتحولات القائمة داخل هذا الوضع المستجد، الذي تتجاذبه إستراتجيات التمزق الذي يرتسم في الأفق: سوريا والعراق وليبيا، والبقية لا ندري كيف ستقاوم هذا السيل الذي أصبح قانونا أو شبيهه؟ استراتيجيات تحكمها البدائل العرقية والإثنية والطائفية والقبلية وكل النظم التي افترض المثقف العربي، في عز اندغامه في الخطاب الحداثي، أنها انتهت، تعود اليوم بقوة. عصر مضى مفرّغا من أي مشروع ثقافي وحضاري حقيقي، وآتٍ لا شيء فيه يُبشِّر بأفق سليم، أو ببعض الخير. وظيفة النصوص والإبداعات التي اختارت التحليل والغوص في التاريخ، لا تفعل شيئًا سوى أنها تعري وضعا ليس اليوم مرئيا إلا من خلال بعض علاماته المعاشة ببؤس، والتي تحتاج إلى تأمل يتخطى الأغلفة الناعمة والخشنة. علينا، ربما، قبل فوات الأوان، أن ننحت مخارج غير منظورة، وهي متوفرة حتما، لكنها تحتاج إلى عقل براغماتي يضعها أمامه ويقوم باجتراحها وفحصها بدقة، ويقبل ببعض الخسارة مقابل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إذا لم يكن الوقت قد فات.
حال الإبداع في حاضر قلق
تاريخ النشر: 10 مارس 2016 01:11 KSA
هل أخطأ العرب طريقهم عندما حددوا أولوياتهم للتطور وخياراتهم الثقافية والحضارية؟ لماذا تخلّفوا عن غيرهم من الأمم؟
A A