Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

هل تجوز الكتابة في عزّ الأحداث ؟!

المسألة ليست بسيطة وغير خاضعة إلاّ لتجربة الكاتب نفسه. الكتابة عن اللحظة التي هي بصدد التكوين، لها شروط قاسية، والكتابة عن اللحظة المكتملة لها شروطها أيضًا.

A A
المسألة ليست بسيطة وغير خاضعة إلاّ لتجربة الكاتب نفسه. الكتابة عن اللحظة التي هي بصدد التكوين، لها شروط قاسية، والكتابة عن اللحظة المكتملة لها شروطها أيضًا. في الأولى هناك محاذير كثيرة، أن يسقط الكاتب مثلًا في الآني المتحوّل غير المضمون، والذي ما يزال تحت وطأة التغيّرات الكثيرة التي قد تلغي الصورة الأولى. لأنه لو سقط فيه، ستصبح كتابته زمنية تنتهي مع انتهاء اللحظة التي ولدت فيها، وتفقد صبغتها التاريخية. كيف نلقي القبض على الهاجس الأكثر نبضًا؟ هذا هو السؤال المركزي، وهذا ليس معطى لجميع البشر. بالمقابل، الكتابة عن اللحظة التي هي بصدد التكوين، فيها نبض حيّ واستثنائي. يهمّ الكاتب طبعًا، أن يكتب عن العصر الذي يعيشه، ويفهمه أيضًا، وليأت آخرون ويكتبون عن عصرنا، إذا شاؤوا، فالتاريخ مادة مشاعة ممنوحة للجميع. لا مشكلة. صحيح أن الكتابة عن اللحظة في زمن تكوّنها، مورّطة، لكن قدر الكتابة هو هذا أيضًا. أتذكر الشاعر الفرنسي الكبير برازياك الذي رأى في هتلر، باسم القومية الأوروبية، منقذًا حقيقيًا لأوروبا المتقاتلة، بتوحيدها بالحديد والنار كما فعل بسمارك، أو غاريبالدي من قبله وعلى مستوى مصغر. لم ير برازياك الجانب الإجرامي للنازية وعدوانيتها ضد إنسانية الإنسان، ودفع الثمن غاليا بتأييده، حيث أعدم على الرغم من حملة التعاطف التي أبداها الكثير من الكتاب الفرنسيين معه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ديغول لم يستعمل حقه في الصفح عنه وقال لمن ترجّوه باستعمال العفو الرئاسي: يجب أن يدفع برازياك ثمن خياراته، فهو ليس عاديًا، فقد جرّ وراء فكرته الآلاف. يمكننا بخياراتنا وتحوُّلنا إلى فاعلين في الأحداث أن ننزلق ونأخذ صفًا معيّنًا لا إنسانيًا لأسباب قومية أو أيديولوجية أو غيرهما. مثال درييو لاروشيل الذي انتحر عندما اكتشف أن النازية هي أخطر مما تصوّره. بالمقابل، لا مشكلة بالنسبة للذي يكتب عن اللحظة في اكتمالها لأنه لا يكتب وهو على احتمالات الخطأ، لأن الحقائق استقرت وانتهت. إمكانية الخطأ غير واردة. مثل الذين يكتبون اليوم على العشرية السوداء في الجزائر، ويكررون كليشيهات حقائق أصبحت عادية. كان يجب أن نسمعهم في وقت النار ليقولوا لنا الحقيقة التي افترضوها، لكنهم وقتها فضّلوا الصمت. ليصمتوا ككُتَّاب، لكن كمواطنين، لا. كيف تصمت وشعبك يُقتل أمام عينيك، ويُجزر من طرف قتلة لا رحمة في قلوبهم. المسألة ليست أيديولوجية، لكنها مرتبطة بالوجدان الإنساني. إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا في عزّ التقتيل والجريمة؟ من هو الإنسان، هل هو الهارب من المواجهة القدرية والعقلية أيضًا، أم الذي يُعانق الحياة في عزّ عنفوانها وقسوتها. من هنا، فإن الروايات التي تأتي لاحقة لحدثٍ كبير، تكون في الأغلب الأعمّ ضعيفة، لأنها تتحدث عن شيء نعرفه، فقد بعضًا من جوهره. لكن هناك روايات توغّلت في المادة التاريخية بعمق وكشفت عن تاريخ ظلّ خفيًا بدون مسبقات أيديولوجية، ولكنها تعاملت مع الإنسان في شرطية حرب تحريرية قاسية، واقع بين نارين، نار العدو الواضحة، ونار الأخ في الكتيبة أو الفيلق، والصديق الذي يمكن أن يمارس ضدك كل أنواع التعذيب القاسية مثلما كان ذلك مع الطاهر وطار في روايته اللاز، والحبيب السايح في رواية كولونيل الزبربر. حيث قالا تاريخًا ظلّ مخفيًا لأسباب سياسية، فكشفا مساحة جديدة للكتابة. جميل أن هذا التاريخ يخرج اليوم إلى النور، كما عند الفرنسيين أيضًا، الذين خرجوا عن التاريخ الرسمي الذي ظلّ يعتبر الثورة الجزائرية مجرد أحداث قبل أن يعترف بها كحرب قبل سنوات قليلة. نرى ذلك في رواية أين تركت ضميري ليجروم فراري، ورواية فن الحرب على الطريقة الفرنسية لأليكسيس جيني. تاريخ آخر تكتبه الرواية اليوم في الجزائر أو في فرنسا، شديد القسوة لكنه جزء من الحقيقة الجوهرية التي قليلا ما تحدَّث عنها التاريخ الرسمي. إذن المسألة لا تتعلق بزمن الكتابة بقدر ما تتعلق بالقدرة على استيعاب جوهر الأشياء هنا أو هناك.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store