أدب الرحلات له سمات خاصة به، لكنه يكون في أكثر صوره تأثيرًا حين يصاحبه نظرة فاحصة بنكهة ساخرة كالرواية الشهيرة التي قدمها جوناثان سويفت ليُذيع صيتها بين الكبار والصغار على حدٍّ سواء إلى يومنا هذا. هكذا ظهر جوناثان سويفت برحلات جلفر في القرن الثامن عشر ليسخر من البشر والسياسة والعلم والحرب، ويواجهنا بأكثر الأسئلة إلحاحًا: مَن نحن؟ وما حقيقة طبيعتنا البشريَّة؟!.
هذا رجل عاش في عصر الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في أوج نهمها الاستعماري. ومن غير رحالة مغامر لديه الجرأة ليعرض ثقافته الأوروبيَّة للمجازفة بغربلتها ومحاسبتها بناء على قِيَم وموازين ثقافة الآخر، لتتكشف له فظاعة كبرياء الرجل الأوروبي الذي يظن بتفوِّقه ويعزم على غزو العالم!
في الفصول الثلاثة الأولى يتحدَّث سويفت بلغة تبدو ساذجة، وأفكار سهلة تجعل الكتاب يصلح أن يُصنَّف من أدب الطفل، لكنّه سرعان ما يصبح ساخرًا بحدَّة في الفصلين الأخيرين، حيث يُغيِّر من أسلوبه، فيتحوَّل من صيغة الراوي ليصبح مراقبًا متجرِّدًا يسقط ثقافة أوروبا، وسياساتها على جغرافيا الآخر، ويسخر بجدية من كل مظاهر الحياة الإنسانيَّة، ويضع الطبيعة البشريَّة موضع الشك، ويُظهر استهجانه وقنوطه منها.
فنيَّات الكتابة عند سويفت هي التي جعلت رحلات جلفر ما تزال من أكثر الكتب رواجًا منذ قرنين من الزمان، هذا لأنَّه يستخدم هذا الانتقال الشديد التطرّف من كونه عملاقًا في بلاد الأقزام في رحلته الأولى، إلى قزم في بلاد العماليق في رحلته الثانية، هذا التلاعب الذكي في النسب، كيف يُؤثِّر على رؤيتنا للعالم؟!، نسب الحجم، نسب القوة، نسب السلطة، ما مدى التشوُّه الذي يُصيبنا نحن البشر بناء على تفاوت المنظور!
سويفت الذي يسخر من الحرب بين شعبي جزيرة الأقزام والتي شبّت بسبب اختلافهم حول الطريقة المثلى لكسر البيضة، هو أيضًا يتقزز حين يقترب جلفر بطل الرواية بنظرةٍ مجهريَّة من بشرة العماليق، وملامح وجوههم، وطريقة مضغهم للطعام بسبب حجمه الصغير أمامهم، ليُخبرنا كم هو مؤلم الاقتراب من البشر ومعرفة حقيقتهم، وأنَّه مهما تفاوتت طبقاتهم الاجتماعيَّة، فإن حقيقتهم الصادمة سواء بالنسبة له.
في الرحلة الثالثة كان جلفر بطل الرواية يراقب عالمًا يستخلص ضوء الشمس من الخيار، منظر ساخر يُصوّره سويفت، يضعنا أمام طبيعة المعرفة في القرن الثامن عشر، زمن طغيان التجارب العلميَّة وتفاقم الفضول المعرفي ليطغى على القيم السائدة والمعقولة. جاءت الرحلة الثالثة لتسخر من التنوير في الصميم، وتطرح السؤال المتشكك في صيغة كاريكاتوريَّة صادمة: هل المزيد من الفضول العلمي المجنون يزيد البشر حكمة أم يزيدهم سخفًا؟!.
يبدو سويفت متهكمًا من الطراز الأوّل، هدفه ليس تغير العالم، ولا هو يرغب في وصفه بموضوعيَّة، إنَّه صورة تخلق توترًا يُشوِّه العالم عن عمد، وكأنَّه يريد إغاظتنا جميعًا، إنَّه يصر أن يواجهنا جميعًا بأكثر الحقائق قُبحًا عن ذواتنا، ولا يتوانى أن يسأل السؤال الثقيل المزعج في رحلته الأخيرة: ماذا لو نظرنا في المرآة، وواجهنا أمامنا أقبح ما نتصوَّر مواجهته؟
لا يبدو أن سويفت يملك إجابة شافية لهذا السؤال، لذا كانت عزلته في آخر حياته وتفرغه للعناية بمزرعته بعيدًا عن أي اتّصال بشري؛ اختيارًا نموذجيًّا للطريقة التي رفض بها عصره، وأدار له ظهره كما يفعل الشرفاء أحيانًا.
جوناثان سويفت يسخر منا جميعاً
تاريخ النشر: 15 يونيو 2016 15:26 KSA
أدب الرحلات له سمات خاصة به، لكنه يكون في أكثر صوره تأثيرًا حين يصاحبه نظرة فاحصة بنكهة ساخرة كالرواية الشهيرة التي قدمها جوناثان سويفت ليُذيع صيتها بين الكبار والصغار على حدٍّ سواء إلى يومنا هذا.
A A