آخر مرة زرت فيها جدي رحمه الله ، تبدى لي أنه كان يحس بدنو الأجل ، فقد أهداني مصحفاً وشرع يوصيني باتباع مضامين الكتاب الكريم في السعي في شئون الحياة والتزام السنة المشرفة، وتحدث عن فضل من يدفع للأجير أجره قبل أن يجف عرقه وعن سمعة التاجر باعتبارها كل ما لديه في الدنيا فالسمعة تبنى عبر السنين وتتحطم بخطأ لا نضع له حساباً ، وقال إن كلمتك هي عهدك للناس وعليك الوفاء بالعهد مهما كلف.
ومضت الأيام في تسارعها ولكن ما زلت كلما قرأت عن إرث الحضام كأسر تجارية أستعيد علاقة السلوك بالنجاح وتتوارد لخاطري صورة جدي ووصاياه فاستريح عند تلك اللحظات المنغرسة عميقاً بذاكرتي، هؤلاء الناس التزموا معايير أخلاقية عالية في التعامل وكأن الربح كما قد يبدو لم يكن مقصداً وهو ما جعل تجارتهم وجهاً من وجوه العبادة ووسيلة يتقرب بها العبد لربه تعميراً للأرض وللاستخلاف. وهناك أسماء لعوائل من الحضارم نالت ما نالت بتلك الصفات ويقدر عدد الحضارم بين 8- 10 ملايين نسمة ويوجد في حضرموت نفسها حوالي مليون نسمه وبالمملكة بحسب تقديرات نحو سبعمائة وخمسين ألفاً كما يتواجدون بأرتيريا وأندونيسيا ويقدرون بثلاثة ملايين وبماليزيا وسنغافوره والهند وكينيا وتنزانيا لهم أعلام مثل مهاتير محمد ورئيس الوزراء الماليزي الأسبق عبد الله بدوي وعبد الرحمن البار وزير خارجيته وعلى أحمد باكثير الأديب ورائد الأدب الإسلامي وعبد الله بلخير أول وزير إعلام بالمملكة وباندونيسيا محمد نقيب العطاس الفيلسوف ومطلق مشروع اسلمة المعرفة وتانكو سيد سراج الدين ملك سابق لماليزيا وميزان زين العابدين ملكها الحالي وحسن البلقيه سلطان بروناي وعلي العطاس وزير خارجية اندونيسي سابق وعلوي شهاب وزير خارجية اندونيسي سابق وحامد البار وزير خارجية ماليزي ومرعي الكثيري رئيس وزراء تيمور الشرقية السابق ، هذه العوائل قبلتها الدول لأن لها سلوكاً جسَّد الدين وجعل العمل التجاري مدخلاً للإسلام وبفضله اندفع الناس في العالم للدخول في الدين الله أفواجاً، فالفرد الذي يتحلى بمكارم الأخلاق يبحث عن الحسنات بالسمو الروحي، وهو واقع لا يزال يستعيده بعض الأبناء في التعامل مع العملاء كقيمة أخلاقية وهناك من يبدأون يومهم بالصدقة وينتظرون صاحبها وإن سألتهم عن ذلك يجيبونك تلقائيا(ما نقص مال من صدقة) فهم خلف لسلف لا يطففون المكيال ويؤثرون على أنفسهم (يرجون تجارة لن تبور) ويعلمون أن (في السماء رزقكم وما توعدون)
وفي الحقيقة أثبتت النظريات الاقتصادية الحديثه أن الصدقات لا تنقص المال لأنها تدور داخل الاقتصاد وترفع من حيويته وفعاليته بتنمية مداخيل الأفراد التي ستنعكس على الاقتصاد وتعود في دورة تالية للتاجر استهلاكاً وربحاً فالصدقة لا تنقص مالاً، بقدرما تضاعفه. ويصح الاستنتاج أن كل تاجر يبيع ويشتري وليس كل من يبيع ويشتري تاجراً، والمعيار قوله صلى الله عليه وسلم ( التاجر الصدوق الأمين يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء )، لأنه يحقق التنمية الاقتصادية الاجتماعية الاسلامية المستدامة فهي خارطة الطريق لنشر العدل التنموي وفق معانٍ روحية بالانفاق من الخواص التي منحنا إياها الله سواء كنا مهندسين أو تجاراً وزرَّاعاً، وإرث الحضارم في مجتمعاتهم التي اندمجوا فيها حقق معاني الانفاق فضلا عن تأكيد أن الدين معامله. وكل عام وأنتم بألف خير.
إرث الحضارم
تاريخ النشر: 11 يوليو 2016 01:32 KSA
آخر مرة زرت فيها جدي رحمه الله ، تبدى لي أنه كان يحس بدنو الأجل ، فقد أهداني مصحفاً وشرع يوصيني باتباع مضامين الكتاب الكريم في السعي في شئون الحياة والتزام السنة المشرفة، وتحدث عن فضل من يدفع للأجي
A A