تهاجرُ الأفكارُ والأقلام، مِثلما تهاجرُ الأجسادُ والعُقول، فطُولُ بقاءِ الماءِ ورُكودِه يجعلهُ آسِنًا، ويُحوّله لسُمٍ زُعاف، بعْد أن كان عذبًا زُلالا.!
ربّما نختارُ الهجرة، أو تختارنا هي، ويدعونا نداءُ العقلِ والروحِ إلى حَزْمِ حقائبِ الأفكارِ والأمنيات، بَحثًا عن بُقعةٍ جديدة، نَجِدُ بها الطمأنينةَ والإلهام؛ لننطلقَ نحْو مسَاحاتٍ أرْحَب، ونطِيرَ في سماواتٍ أَكثرَ صفاءً وعُلُوّا.
وحسنًا ما يفعلهُ الإنسان، في الهجرةِ والانتقالِ سعيًا وراءَ فُرصةٍ تنتظره، ولا يَبقَى قاعدًا يُردِّد مقولةَ العاجزِين الخاملِين: ليسَ بالإمكانِ أَكثرَ ممّا كان.!
اليومَ أضعُ رِحالي في صحيفةِ المدينةِ العريقة، حاملًا محبرتي وأقلامي وآمالي، قادمًا مِن صُحفٍ منَحتْني الحُبَّ قَبْلَ المسَاحة، فشكرًا مِن القلبِ لِمن صَدقَ في المحبة، ودعَم بالنصيحةِ والتوجيهِ والدعاء.
وكلّي أمل، أنْ أَكونَ نجمًا صغيرًا، على أَضعفِ تقدير، بينَ شُموسِ هذهِ الصحيفةِ المهمّة، مِن أقلامِ أساتذتي الكبار مِن الكُتابِ والكاتبات، وبقيّةِ الأصدقاءِ المبدعِين على صفحاتِها.
يستدعي اسمُ صحيفتِنا العريقة، اسمَ المدينَةِ الأثيرةِ بقلوبِ محبّيها المقيمينَ بها، وزائرِيها والمشتاقينَ لها مِن أركانِ المعمورة، طيْبة الطيّبة، على صاحبِ القبرِ بها صَلوات ربّي وسَلامه، مدينة السّلام والطمأنينة، ومثوى قبورِ عبادِ اللهِ الصالحِين، مِن الصحابةِ الكرامِ رضوان الله تعالى عليهم، ومَن جاوَر بِها مِن التابعِين وغيرِهم، رحمهُم اللهُ تعالى أجمَعين.
زرتُ المدينةَ المنورةَ زياراتٍ سريعةٍ متفرّقة، وبعْد كلِّ زيارة، أُعاتبُ حالي في قُصْر المكُوثِ بها، وما زالَ الشوقُ يَحمِلُ القلبَ إليها، ولعلّ قادمَ الأيامِ تسعدني، إنْ شاءَ الله، بتحقيقِ هذه الرغبةِ المتجدِّدةِ الدائمة.
فِكْرة الهِجرةِ مرتبطةٌ بالضّرورةِ هُنا، بِاسْمِ هذهِ المدينةِ الفواحةِ بِعِطْرِ النبوةِ وعبيرِ المهاجرِين وإخوانِهم الأنصار، الذين خَلّدَ اللهُ عزّ وجلّ حكايةَ إيثارِهم في آياتِ القرآنِ الكريم، بقولِه سبحانه: «والذينَ تَبَوّؤُوا الدارَ والإيمانَ مِن قَبْلِهِم يُحبّونَ مَنْ هاجَرَ إليهِم ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حاجةً مِمّا أُوتُوا ويُؤْثِرونَ على أَنْفُسِهِم ولو كانَ بِهِم خَصَاصةٌ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفْسِهِ فأولئكَ هُم المفْلِحُون».
إنّهُ الإيثارُ في أَسْمَى صُوَرِهِ وأَعْظَمِ مَعانِيه، عِندما يَقفُ الإنسانُ مع أخيهِ الإنسان، ليٌقاسِمَهُ مشاعرَه، قبْل أن يتقاسَما المالَ والممتلَكات، وفي وثيقةِ المدينةِ التي كُتبت بينَ الرسُولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ومَن معهُ مِن المهاجرِين مِن مكّة، وبينَ جميعِ ساكِني المدينَة، الكَثِير مِن المعَاني العظيمَة، لا تتّسعُ هذهِ السطورُ لسَرْدِها، وهي مَعانٍ نابضَة بالحُبِّ والفداءِ وحِفْظِ العُهودِ والمواثيقِ مِن جميعِ الموقِّعِين علَى الوثيقَة.
وهُنا، أُجَدِّدُ المحَبّةَ والوفاءَ للقُراءِ الكِرام، وأنا متأكّد مِن حُسْنِ ظنِّهِم ومحبّتِهِم لصاحبِهم، متأملًا أنْ أكونَ جديرًا بِكُلِّ مشاعرِهِم النقيّة.
وما زال قَلمي المرتَعِش بيَدِي المرتعِشّة، يَهابُ عقلَ القَارئ اليقِظ، ويَحترمُ فِكْرهُ الواسِع، ويتأمّلُ العونَ مِن صَديقٍ مُحِب، وناصحٍ أَمين، يُهديني عُيوبي، قَبْلَ أن يُسطّر كَلماتِ الشُّكرِ والثناء، دُمْتُم ودامَ إيمانُكم بالحيَاةِ الحقيقيّة، ووعيِكُم بِدَورِكُم المُهمّ فِيها.
المدينَة.. الأرض والصحيفة.!
تاريخ النشر: 01 سبتمبر 2016 03:27 KSA
تهاجرُ الأفكارُ والأقلام، مِثلما تهاجرُ الأجسادُ والعُقول، فطُولُ بقاءِ الماءِ ورُكودِه يجعلهُ آسِنًا، ويُحوّله لسُمٍ زُعاف، بعْد أن كان عذبًا زُلالا.!
A A