Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الحُدود الشخصِيَّة.!

مِن المعْلومِ أنَّ للدُّولِ حُدودًا تَرْسمُ مَواقِعَها، وتَصنعُ أسبابًا لاحترَامِهَا وهيبتِهَا، لكن مَاذا عَن الحُدودِ التِي تَخُصُّ البَشر؟!، أَين تَبدأ؟ وأَين تَنتهِي؟

A A
مِن المعْلومِ أنَّ للدُّولِ حُدودًا تَرْسمُ مَواقِعَها، وتَصنعُ أسبابًا لاحترَامِهَا وهيبتِهَا، لكن مَاذا عَن الحُدودِ التِي تَخُصُّ البَشر؟!، أَين تَبدأ؟ وأَين تَنتهِي؟ ومَاذا نفعلُ عندَما يَتعدَّى أحدُهُم حُدودَهُ باتجَاهِنَا؟!، هل نُرغِمهُ على التوقُّف؟! أمْ نَكتفِي بالصَّمتِ والنَّظرِ إِليه؟!
شَخصيَّةُ الإنسَانِ تُشبِه شَخصيَّة الدَّولَة، في حُدودِها وقَوانينِها المُعتبَرَة، والدّولَة ذَات القَرارِ السِّيَاديِّ، كَما يَقولُ فُقهاءُ السّياسَةِ، تَعملُ، بِاستمرَار، علَى حِمايَةِ حُدودِها، وتَطبيقِ قَوانينِها، ومُعاقَبةِ المخَالفِين لتِلكَ القَوانين، حتَّى وإنْ كَانت حدود الشخصيَّةِ وهميَّةً، لكنَّها مُهِمَّة، وتَستوجِبُ العِنايَة.
يَهتمُّ الإنسانُ، صاحِبُ الشخصيَّةِ القويَّة المتَّزِنَة، بحُدودهِ الخاصَّة، ويَضعُ القوانينَ المنظِّمةَ لعلاقَاتِه بِالآخَرِين، وهُو صَارِمٌ مَع مَن يَتجاوزُها، مُحاوِلاً التسبُّبَ لهُ في الأذَى والإزعَاج، بقَصْدٍ أو بغيرِ قصْدٍ، إنَّهُ لا يَسمحُ لِلصُوصِ المشَاعرِ أنْ يتسلَّلوا إلى قلبِه، ليَزرعُوا بهِ الأَلَم، ويَمنعُ لُصوصَ الأفكَارِ مِن الدخولِ إلى عَقلِه، لينسُجوا فيهِ الأوهَام، ويَصُدُّ سُرَّاقَ الوقْت، الذينَ يُبدِّدونَ ساعَاتِ يَومِه ولَيلتِه فِي اللا شَيء.!
وفِي ذَاتِ الوَقت، يَقفُ عندَ حُدودِه، ولا يَقفِزُ فوقَها، عَابرًا بِصفَةٍ غيرِ شرعيَّة، إلى المسَاحاتِ الخاصَّةِ بغيرِه، وهَذا -والله- غايةُ الإنصَافِ، ومُنتهَى العَدل، بِأن نَعرِفَ حُدودَنا، ولا نَرضَى التعدِّي عَليها، ونُعامِلَ الغيرَ بالمِثْلِ تمَامًا.
وهكَذا يَعيشُ المرءُ حياتَه فِي طمَأنينَة، مُهابَ الجانِب، مُحترِمًا حُدودَ الآخَر، مقرِّرًا، بصفةٍ شخصيَّة، ما يُناسِبُه ويَختارُه مِن أمورٍ تُحَققُ لهُ السَّعادَة، حَاميًا قلبَه وعقلَه ووقتَه مِن صُنوفِ الناسِ المزعِجِين، متيقِّظًا لمنَاعةِ حُدودِه الشخصِيَّة وحَصَانتِها، بِكلِّ ما أُوتِي مِن قُوةٍ وحِكمَةٍ.
لا بأسَ أن نكُونَ قَريبِينَ مِن الأشخَاصِ المحبِّينَ لنَا، أو المُحتَاجِين للعَونِ والدَّعم، بَل هُو الواجِب، بقَدرِ ما يَسمحُ بهِ الوقتُ والجهدُ والمعرِفَة، حتّى يَتجاوزُوا أزمتَهم، وتَتراكَم تجربتُهم، ويُصبِحوا بِحَالٍ أقوَى وأَفضَل، يُؤهّلهُم للاعتمَادِ علَى أنفُسِهم، فيَنتهِي دورُنا عندَ هَذا الحدِّ.
في زَحمةِ الحيَاةِ، واضطِرَابِ المشَاعِر، لا يَخلو القلبُ مِن إنسَانٍ عَزيزٍ يُقِيمُ بِأَحَدِ أركَانِه، يَعيشُ بينَ الضُّلوع، ويَبعثُ فِينَا الدِّفءَ والطّمأنينةَ والسَّلام، فهو يُشبِهُ الواحَةَ الوارِفةَ الظِّلال، عَذبَة الماءِ فِي هَجيرِ الصَّحراء، نَسترِيح بِها مِن تعَبِ العُمرِ، والقَسْوةِ فِي بَعْضِ مَحَطّاته، هَؤلاء البَشَر الأعَزَّاء، لا نَستَطِيع، فِي كَثيرٍ مِن الأحيَان، أن نَضَعَ دُونهم حُدودًا، أو نُوقِفَ لهُم علَى أَبوابِ القَلبِ حَاجِبًا أَو حِجَابًا، ألمْ أقُل إنَّهُم يَسكُنونَ القَلب؟! فكيفَ يَستأذنِوننا لِيَدخُلوا إليهِ وهُم مُقيمونَ فِيه؟!
بَل إنَّنا نَسعَدُ بِوجُودِهم مَعنا، ومُستعدِّون أَن نُلغيَ الكَثيرَ مِن علاقَاتِنا المُؤذيَة؛ ليَبقوا فِي حَياتِنا غَيمَاتٍ تُظلِّل الرُّوحَ، وغيثًا يروِي الشَّرايينَ بِلا انقطَاع، فهُم الحُبُّ في جَفافِ الأحَاسِيس، والنّورُ فِي ظَلامِ الزَّمن، والأمْنُ فِي مَتاهاتِ الخَوف، لقَد مَنحْناهُم جَوازَاتِ تنقُّل سارِيَة المفعُول، وحَصانةً تَمنعُ المشَاعرَ مِن اعترَاضِهم.
فهنيئًا لقَلْبٍ هَؤُلاءِ سُكَّانه، ومَرْحبًا بِخُطواتِهم الخَفيفَة الرّشِيقَة، تَعْبُر حُدودَ الوِجْدان، وتَطبعُ آثارَها علَى مسَاحاتِ الفُؤادِ لَوحةً خَالِدةً، ونَقْشًا يَبقَى مَا بَقِينا.!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store