Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

المشاعرُ المباغتةُ!

المشَاعرُ بحرٌ لا ساحلَ له، والإبحارُ بالكتابةِ فيه مغامرةٌ غير مأمونةِ النتائج، يحتاجُ فيها الكاتب لمرْكب أفكارٍ قويٍّ، ومجاديف أقوى، تمْسِك بها ذراعان لا يسري إليهما الكلل، إنَّها مكوِّناتٌ صعبةُ ال

A A
المشَاعرُ بحرٌ لا ساحلَ له، والإبحارُ بالكتابةِ فيه مغامرةٌ غير مأمونةِ النتائج، يحتاجُ فيها الكاتب لمرْكب أفكارٍ قويٍّ، ومجاديف أقوى، تمْسِك بها ذراعان لا يسري إليهما الكلل، إنَّها مكوِّناتٌ صعبةُ التوافر لأيِّ قلمٍ، مهْما بَلغ مِن القوة والجَسارة، فإنْ كانَ مركب أفكاره قويًّا، فمَن يضمن له هدوء البحر؟! وإنْ كانت مجاديفه صلبةً، فكيف لذراعيه أنْ تصْمدَا على طُول الرحلة؟!
حال مشاعرِنا مثير للعجب، يطول الحديثُ عنها، سواء للمختصِّين في عِلم النَّفْس والاجتماع، أو المحلِّقِين في سماء الكتابة الأدبيَّة شِعرًا ونثْرًا، لسببٍ واحدٍ، أنَّها لا تستمرُّ على حالٍ، ولا يهدأ لها بالٌ، فما إن يشعُر أحدُنا بالطَّمأنينة والسعادة، إلاَّ وتداهمه مشاعرُ القلقِ والحُزنِ، وكذلك العكس، بل إنَّ الدموعَ قد تفيضُ في أوقات الفرَح والأسى على السواءِ، يقولُ الشاعرُ صَفِيّ الدِّين الحِلِّي:
طفحَ السرورُ علَيَّ حتَّى أنَّني
مِن عِظْمِ مَا قدْ سَرَّني أبكَانِي.!
تأتي المشاعرُ المباغتةُ كالزائرِ الذي يجيءُ بلا موعد سابق، تطلُّ علينا تلك المشاعر فجأةً، غير عابئةٍ بالزمان أو المكان، ينزوي الإنسان وحيدًا، فتأتي لتأخذ مكانًا إلى جواره، يخالط الناس، فتمشي المشاعرُ باتجاهه، ولا تهتمُّ بالزحام مِن حوله، وكأنَّها الطَّير في السماء، يطيرُ حُرًّا طليقًا، يراقب الكائناتِ الأرضيَّة، ويهبط على الغصنِ الذي يختاره، في وقتٍ يحدِّده بمحض إرادته، ليعود إلى التحليق مجدَّدًا متى شاء.
يجلس الفرد في مكانٍ ما، يتحدَّث إلى أشخاصٍ يعرفهم، أو ربما كانوا مِن العابرِين، ثمَّ يغادر ويغادرون، يدور الزمنُ دورةً قصيرةً أو طويلةً، تحمل الأقدامُ صاحبَها، عمدًا أو سهوًا، إلى ذات المكان، تهطل سحائبُ الذكرى، ويَسقي غيثُها جفافَ القلبِ، ويفيض نهر المشاعر، ليغمر الحواسَّ بأحاسيسَ مختلفة، فتارةً تتذكَّر الأذنُ أصواتًا عبَرت المكان، فينطقُ اللسانُ ردًّا على صدى سؤالٍ كان لأحد الجالسين، عندها، ينتبه الشخصُ مِن استغراقه في التفكير، ويلقي النظراتٍ سريعًا، حَرَجًا أن يكون لمحه أحدٌ، وهو يتحدَّث إلى نفْسِه، وبدون شعور، يسرح تفكيرُه مِن جديد، ليَرى وجوهًا كانت تجاوره، فيبتسمُ بلا قصْدٍ، وتأخذه الأفكارُ بعيدًا، وتستمرُّ أحلامُ اليقظةِ، ليعود الوعيُ ويذهب في كلِّ مرَّةٍ.!
المشاعرُ المباغتةُ لا تخلو مِن الألمِ، لكنِّي بطبعي متفائلٌ دائمًا، ولهذا أراها، في كثيرٍ من أحوالها، نزهةً للعقلِ والقلبِ، واستراحةً تأتي إلينا بدلاً مِن ذهابِنا إليها، فمَا أَجمَل أن تمرَّ أمام ناظرَيك صورُ الأعزَّاء، لتستدعي ذكرياتِك السّعيدةَ معهم، وما أعذب أنْ تطرقَ أصواتهم مسامعَك، لحنًا عذبًا لا يُمَلُّ.
يرحلُ العقلُ على أجنحةِ الذكريات، يتنقَّل بيْنَ السنين الماضية، وتطوفُ بك المناظر، منها زاهيةَ الألوانِ، ومنها ما صار بالأبيض والأسْود فقط، لتردِّد مع القائلِ المجهولِ عِبارتَه الشهيرة:
إنْ أعادُوا لكَ الطَّريقَ، فَمَن يُعِيدُ لكَ خُطَاكَ؟!
إنْ أعادُوا لكَ صوتَكَ، فَمَن يُعيدُ لكَ الكلماتِ؟!
إنْ أعادُوا لكَ المقاهِي القديمةَ، فَمَن يُعيدُ لكَ الرفاقَ؟!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store