Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

وحيدًا وسط الزّحَام.!

الوحدَة ليسَتْ مرَضًا كَما يَظنُّ البَعض، بل هي دواءٌ وشفاءٌ مِن وَعثاءِ النّاسِ، وكآبةِ الأفكارِ، وسُوء المنقلَبِ في القلبِ والعقل، وجَميع أصحَابِ الرسَالاتِ والحكمَة، مِن الأنبيَاء عليهِم الصّلاة وا

A A
الوحدَة ليسَتْ مرَضًا كَما يَظنُّ البَعض، بل هي دواءٌ وشفاءٌ مِن وَعثاءِ النّاسِ، وكآبةِ الأفكارِ، وسُوء المنقلَبِ في القلبِ والعقل، وجَميع أصحَابِ الرسَالاتِ والحكمَة، مِن الأنبيَاء عليهِم الصّلاة والسَّلام، والحُكماء والعُلماء على امتدادِ التأرِيخ، كانت لهُم أوقَات يخصّصونَها للوحدةِ والخلوةِ بأنفُسِهم، يَأْنسُون بِها، ويُحاسبونَها؛ فتمنحُهم وحدتُهم مساحاتٍ لا محدودَة مِن الطّمأنينةِ والشعُورِ بالرِّضَى.
يمارسُ الإنسانُ السويُّ الوحدةَ اختيارًا أو اضطِرارا، رغبةً منهُ في لمّ شعْثِ رُوحِه، وإعادةِ ترتيبِ داخلِه، مِن الفَوضى التي تسبّبها لهُ الظروفُ أو النّاس، والوحدة لا تُعتبَر هُروبًا مِن الواقعِ عندَ مَن يَفهمُ معنَاها ويُدرِكُ أهمّيتَها، ولكنّها اقترابٌ ومقابَلة لذواتِنا، التي انشَغلْنا عنْها بأمورٍ تستحقُّ الانشغَال، وقَد لا تستحِق.
يَنزوِي أحدُنا في مكانٍ يُحبّه، يقرأ، أو يفكّر، أو يتأمّل، أو يمارسُ الرياضَة. قد يكونُ المكانُ دارًا للعبَادة، أو مكتبةً للقراءَة، أو حديقةً للمَشي والاستجمَام، ولن يُعدَمَ الفردُ فائدَة، أو فَوائد، يَجنيهَا مِن بُستانِ الوحدَة، زيادةً في إيمانِه، وإضافةً لمَعرفتِه، وقوةً لبَدنِه.
لو افترَضْنا، والأعمارُ بيدِ الله تعالَى، أن معدّل عُمر الشخصِ ستّون عاما، ينامُ ثلثَها نومًا طبيعيا، أي أنهُ ينامُ عِشرين سَنة، ويذهبُ إلى عَملهِ مثلَها، سيتبقّى له عشرونَ عامًا فقط، المَفرُوض أنْ يعيشَها الإنسانُ بهُدوءٍ وسَلام، وهو يستطيعُ أن يفعلَ ذلك، بمشيئةِ الرحمن، بل في مقدورِه أن يَسْعَدَ في سنينِ عُمره كُلِّها، متى ما امتلكَ الفكرَ السّليمَ والتخطيطَ الواقعيّ لوقتِه.
ولا شك أنّ الوحدةَ، لَدَى مَن يُحْسنُ ممارَستها، سُلوكٌ مفيد، يحقّق التوازنَ النفسيَّ والعَقلي، بتَصفيةِ الفكرِ وغسيلِ الرّوح، وتَجديدِ رغبَةِ الإنسَانِ في مُزاولةِ شؤونِ حيَاتِه، والإقبَالِ على عَملِهِ بإتقانٍ وإخلاصٍ ومحبّة، ذلك أنّ الوحدةَ محطّةٌ هامّة، لا بُدّ أن نُعاودَ زيارتهَا، للتزوّد بما يُعيننا على مُواصَلةِ رِحْلةِ العُمر.!
حين نكونُ في وحدتِنا، فعقولُنا ليسَتْ خاليةً مِن الوُجوهِ والأفكَار، على العكْس تمَاما، فهي أقصَى ما تكُونُ ازدحامًا في تلكَ اللحَظات، وتكمن المعاناةٌ في أنّنا نحاولُ اجتذابَ ما يُسعِدنا منها، والإعرَاض عمّا يُحاصِرُنا، ويقلقُ لحظتَنا الرّاهنة.
والوصُول إلى اختيَارِ الوجوهِ الأثيرةِ والأفكَارِ الإيجابيّةِ في الوحدةِ سهلٌ ويَسير، لمَن يَعملُ بدأبٍ على تدريبِ ذاتِه، حتى تُصبحَ كالنّحلة، لا تقعُ إلا علَى الزهُورِ المتفتّحةِ والوُرودِ الفوّاحةِ بأزكَى الشّذا، فيُصْبِح هذا سُلوكًا معتادًا للمرءِ مدى الحيَاة، يَأخذهُ لأبوابِ السّعادةِ ومَواطِنِ الفرَح.
ولا يُفهَمُ مِن الدّعوةِ إلى الوحدَةِ أنّها انعزالٌ تامٌّ عنِ النّاسِ والحيَاة، فالإنسَان، في كلّ الأحوال، كائنٌ اجتمَاعيٌّ لا يُمْكنُ أنْ يعيشَ بمعزلٍ عن مُحيطِه، بلْ إنّ سُلوكَهُ الطبيعيّ أنْ يُخالِطَ الناس، ويتعلّمَ مِن المواقفِ المختلفَة، بحَلاوتِها ومرارتِها.
وكَما قِيل: لا تَندمْ على مَعرفةِ أيّ شَخصٍ في حيَاتِك، فالنّاسُ الجيّدونَ يُعطونكَ السّعادة، والناسُ السيّئونَ يعطونكَ التّجربَة، أمّا أَسْوأ النّاسِ فيعطونكَ درْسًا، وأَفضَلُ الناسِ يَمنحونكَ ذكريَاتٍ جَميلة، تَحْفرُ في ذَاكرتِكَ إلَى الأبَد.!.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store