Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

شجَاعة الاعتذار!

لا تَقتصِرُ الشجَاعةُ علَى مواجَهةِ الخَصْمِ في مَيدانِ المعرَكةِ هُجومًا أو دِفاعَا، أو أنْ يَقُولَ المرءُ رأيَهُ في قَضيةٍ ما، أو أنْ يُلمْلمَ مشَاعرَه ويبتعدَ عن أذَى الأشخَاصِ والأماكِن، فهناكَ شج

A A
لا تَقتصِرُ الشجَاعةُ علَى مواجَهةِ الخَصْمِ في مَيدانِ المعرَكةِ هُجومًا أو دِفاعَا، أو أنْ يَقُولَ المرءُ رأيَهُ في قَضيةٍ ما، أو أنْ يُلمْلمَ مشَاعرَه ويبتعدَ عن أذَى الأشخَاصِ والأماكِن، فهناكَ شجاعةٌ مِن نوعٍ آخَر، قَد لا تَتوفرُ في كَثيرٍ مِن النّاس، إنهَا شَجاعةُ الاعتذارِ والتراجُعِ عن الخَطأ.
مَنْ مِنّا لا يُخطِئُ عَمْدًا أَو جَهْلا؟! كُلّنا ذاكَ الشخصُ الذِي يَرتكبُ الحَماقاتِ بِاستمرَار، وهذهِ طَبيعةٌ بَشريّةٌ لَها أَسبابُها الكَثيرةُ والمعقَّدة، وإِذا كانَ الخَطأُ طَبعًا بَشريًّا، فمِن الضّرورِي أنْ يأتيَ الاعتذارُ بَعْدَ الخَطأ، ليَمحوَ ما سبَّبهُ مِن أَثر، ورُبّما لا يزِيلُ الاعتذارُ أثرَ الخَطأ كَامِلا، ولكنّه يَتركُ فِي نَفْسِ مَنْ نَعتذرُ لهُ شُعورًا لطِيفا، ويُحقَّقُ لهُ الهُدوءَ، ويَحْفظُ كَرامتَه.
يَظُنُّ طائفةٌ مِن النّاسِ، وبَعض الظنّ إِثم، أنّ الاعتذارَ يَنتقِصُ مِن قِيمَتِهم، ويَحُطُّ مِن مَكانتِهم، مَع أنّ العكسَ هُو الصحيحُ تماما، فالاعتذارُ مِن شِيَمِ الكِرامِ أَخلاقًا والكِبارِ قَدْرا، فعِندمَا أَعتذرُ لفُلانٍ فأنَا لا أَرضَى لهُ الإهانة، كَما لا أرضَاها لنفْسِي بالضّبط، وهذهِ غَايةُ الإنصَافِ وقِمّةُ العَدل، لأنّ المتَكبِّرَ على أَخيهِ الإنسَان، لا يَعتذرُ لَه، ويَرَى نَفْسَهُ أَرفَعَ مِنْه منزِلَة، وذاكَ، لَعَمْرِي، مَزْلَقٌ خُلُقِيٌّ خَطِير، يَهْوِي بصَاحبِه إِلى ظُلماتٍ لا صُبْحَ لَها.
إذَا اتفَقْنا أنّ الاعتذارَ للكِبَارِ واجِب، فمَاذا عَن الاعتذَارِ لصِغَارِ السنّ والبُسَطاءِ مِن البَشر؟! هُنا يَأتي المحَكُّ الإنسَانيُّ المهم، فَحِين يَرَى أَحدُنا أنّ الاعتذارَ للأطفَالِ والبُسَطاءِ واجِبٌ إذَا أَخطأَ بِحَقِّهم؛ فَلَهُ التّهنِئةُ بعَقْلهِ الرّاجحِ وقَلْبِهِ الممْتلِئِ رَحْمة، لقد تجاوز المخطِئُ، هُنا، أَنانيّتَه، وسَمَا علَى ذَاتِيّتِه، وأَرسَلَ رسالةً للإنسَانِ البَسيطِ مفَادهَا: أنتَ وأَنا سَواءٌ فِي عِزّةِ الجَانبِ وكَرامةِ النّفْس، لا فَرْقَ بَينَنا، ولا تَمْييز.
أمّا الاعتذَار للطّفلِ فيَبعثُ إلَى عَقلِهِ وقَلْبِهِ الصّغيرَينِ رسَالةً نَفسيّةً وتَربويةً عَظيمةً مَضمُونها: أَنا آسِف يا صَغيرِي، لقَد أَخطأْتُ بِحَقِّك، وأَتمنّى أنْ تتحَلّى بالشجَاعة، مثلَما أَفعَل، لتَعتذِرَ للنّاسِ حِينَ تُخطئ، ولا تأخذُكَ العِزّةُ بِالإثم؛ فتتمَادَى فِي الخَطأ، أَو تبحَث عَن أَعذارٍ واهِيَةٍ تُبرِّر بِها خَطأَك.
وهُنا يَأتي دَوْرُ الشّخصِ الذِي اعتذرْنَا لَه، ومعَه الحَقُّ كَامِلاً فِي قبُولِ الاعتذَارِ أو رَفْضِه، فإذَا قَبِلَ فهُو ذُو نَفْسٍ سَخِيّة، وأَخلاقٍ سَاميَة، وقلْبٍ نَقيٍّ متسَامِح، وإنْ رَفَضَ الاعتذَار، فعليه أن يكُونَ منصِفا، ويَشرحَ للطّرَفِ المخْطِئ أَسبابَ هَذا الرّفْض، ويُوضِّحَ طلبَهُ حتّى يَكُونَ الاعتذَارُ مقْبولاً مِن المخطِئ، ولا لَومَ علَى صَاحِبِ الحَقّ، لأنّ البعضَ قَد يُخطئُ عَلينا أَمامَ النّاس، ويَأتي للاعتذَارِ بِكلامٍ بَاردٍ فِي مَكانٍ مُغلَق، وهَكذا يَكُونُ أَخطأَ مَرّةً أُخرَى باعتذَارِه النّاقِص.
إنّ البُيوتَ الّتِي يَتربّى فِيهَا الأبنَاءُ والبنَاتُ علَى الاعتذَار لبَعضِهم، ويُشاهِدونَ الأبَ والأُمَّ وكُلّ وَاحِدٍ مِنهُما يَعتذرُ للآخَر، لَهِي، بِحَقٍّ، بُيوتٌ قامَتْ علَى غَرْسِ المودّةِ والشجاعَةِ فِي نُفوسِ أَفرادِها، وعلّمَتْهُم كيفَ يَعتذرونَ للطرَفِ الآخَر، لأنّهُم بِحَاجَةِ مَن يَتقدّمُ إليهِم مُعتَذِرًا ذاتَ يوم.!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store