Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

محطّات الذكريَات!

تَملأُ الذكرياتُ حيّزًا كَبِيرًا مِن ذاكرةِ الإنسَان، وتستغرقُ وقتًا غيرَ قَليلٍ مِن تَفكيرِه، وتُسْهمُ فِي تَشكيلِ الكَثيرِ مِن قناعَاتِه وسُلوكيّاتِه، تَنقلهُ مِن يَومِهِ الحَاضرِ إلَى زمنٍ ماضٍ بَع

A A
تَملأُ الذكرياتُ حيّزًا كَبِيرًا مِن ذاكرةِ الإنسَان، وتستغرقُ وقتًا غيرَ قَليلٍ مِن تَفكيرِه، وتُسْهمُ فِي تَشكيلِ الكَثيرِ مِن قناعَاتِه وسُلوكيّاتِه، تَنقلهُ مِن يَومِهِ الحَاضرِ إلَى زمنٍ ماضٍ بَعيد، يُشَاهِدُ وجوهًا غابتْ مؤقتًا أو نهَائيًا، تَحْمِلُه الذكريَاتُ إلَى مُحطّاتٍ متعدّدة، تتنوعُ بينَ الاشتياقِ والغُصّةِ والفَرحِ والألَم، ذلكَ أنّ الذكريَاتِ هِي حياةُ الإنسَانِ فِي وقتٍ مضَى، وبقايا مشَاعرِه مَع أشخَاصٍ كانَ لهُم تَأثيرٌ فِي حيَاتِه ذاتَ يَوم، زَرعُوا بقَلبِه بُذورَ السّعادَة، وبَثّوا فِي رُوحِه شعاعَ الأمَل، وأَخذُوا بيَدِه كَي يَنْهضَ من عَثْرتِه، يقولُ الشّاعر: أحمَد شوقِي رَحمهُ الله:
يا جارةَ الوادِي طَرِبْتُ وعادَني
ما يُشْبِهُ الأحلامَ مِن ذِكْراكِ
مَثّلْتُ فِي الذّكرَى هَواكِ وفِي الكَرَى
والذّكريَات صَدَى السّنينِ الحَاكِي
وربّما كانَ تأثيرُ الذكريَاتِ سلبيًا وقاسِيًا؛ فتَسترجعُ الذاكرةُ مواقفَ مَن غَرَسُوا بصُدورِنا سِهامَ الغَدر، وتَسبّبوا لنَا بالألَم، وزادُوا حَسَراتِنا أضعَافا، وتجَاهلُونا حينَ كُنّا بِحاجتِهم إلَى جِوارِنا.
لا نَستطيعُ أنْ نُغالطَ الواقِع، أو نَهرُب مِن الحَقيقة، ونَطلُبَ مِن صَاحِبِ الذكريَاتِ أن لا يتَأثّر بذكرياتِه المؤلمَة، لأنّ الأمر، فِي غالِبِ الأحيَانِ وليسَ دائمًا، خارِج عَن نطاقِ سيطَرةِ العَقل، ويَستحيل أنْ تَخلوَ الذاكرةُ مِن الأمورِ الموجِعَة، لكِن تُوجد طَريقةٌ سَهلةٌ ومُمكنةُ التّطبيقِ، للتخفيفِ مِن الآثَارِ السّلبيةِ للذكريَاتِ الأليمَة، وذلكَ بأنْ يتجاهلَها الإنسَانُ، ويُحاولَ الانشغَال بالذكريَاتِ الجميلَة، ويَملأ تفكيرَه بِها، ويَعيشَها كأنّها حدثَتْ للتوّ، وهكَذا يَصلُ إلَى حَالةٍ مِن التوازُنِ النّفسِي والتصَالُحِ الفِكريِّ مَع ذَاكرتِه وذاتِه، ويُقلّل، إلى حدٍّ كَبير، مِن القَلقِ النّاتجِ عَن الذكريَاتِ المزعِجَة.
فِي السّنين الأُولَى مِن حيَاةِ الإنسَانِ، تَتراكمُ ذكريَاتُ الطّفولَة، لِتَصْنعَ للكَثيرِين السّعادةَ أو التعاسَةَ لاحِقا، ونحْنُ غيُر مَسؤولِين، بكلِّ تَأكِيد، عَن ظُروفِ طُفولَتِنا وذكريَاتِها، ولكِن بإمكَانِنا أن نُقلّصَ مسَاحةَ الألمِ فِي ذكريَاتِ الطّفولةِ، بصنَاعةِ مَواقِف سَعيدةٍ جَديدةٍ فِي العُمرِ الّذي نَعيشُه الآن، وذلكَ بزيَادةِ الوَعي والنّضج، واستخلاصِ الحِكمَةِ مِن المَواقفِ السابقة، ومحَاولةِ عَدم تكرَارِ التصرّفاتِ الخَاطئة، والانطلاقِ إلَى حَياةٍ أَكثرَ بَهجةً وتفَاؤلا، أمّا إذا اخترْنَا لأنفُسِنا البقاءَ كَأسْرَى فِي فترةِ الطّفولةِ، وركّزْنا التفكيرَ علَى الجَانبِ المزعِجِ مِنها؛ فسَنجنِي علَى حَالِنا بِهذه الأفكَار، ونَعِيش فِي تَقريعٍ مُستمرٍّ لذَواتِنا، بسَببِ ذكريَاتٍ ليسَ لنَا يدٌ فِي صِنَاعتِها.
للذكريَاتِ ومحطّاتِها نَشوةٌ تَغمرُ حَواسَ الإنسَانِ بالفَرح، وتَرحلُ بهِ إلَى دُنيا مِن الجَمال، وتُجَدِّد رغبتَه فِي العَملِ والحُبِّ والإبدَاع، ولكِن إذَا استغرَقْنا فِي عالَمِ ذِكريَاتِنا الماضيَة، وانعزَلْنا عَن الواقِع، فسَنجِدُ أنّ الحيَاةَ قَد مضَتْ بَعيدًا عنّا، وقَطَعَ النّاسُ مَسافةً هائِلةً فِي درْبِ العَملِ والإنجَاز، ونحْنُ مَا نزالُ نَتفيّأُ ظِلالَ الذكريَات، ونَغرَقُ فِي سُباتِ المَاضِي، ونَعِيشُ حيَاةً قد انتهَت، وذهبَتْ بكُلّ تفَاصيلِها، وهَذا هُو الفَرْقُ المهمّ والجَوهريُّ بينَ مَن يَقتاتُ علَى بقايَا ذكريَاتِه، وبينَ مَن يَعْمَلُ بِاجتهَاد، ويَشُقُّ الطّريقَ إلَى إنجَازاتٍ جَديدَة، تُضِيفُ لهُ رَصِيدًا جَديدًا مِن الذكْريَاتِ السّعيدَة.!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store