Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

سِهام الكَلام..!

تَعلَّمنا في طفولتنا الكثيرَ والمفيدَ عن أهميَّة الكلمة، وقرأنا عِدَّة حكاياتٍ عن خطورة التهوُّر في الكلام، منها حكايات كَتبها الأدباءُ على ألسنةِ الحيواناتِ والطيورِ، كمَا يزخرُ بذلك الكِتاب الشهير ف

A A
تَعلَّمنا في طفولتنا الكثيرَ والمفيدَ عن أهميَّة الكلمة، وقرأنا عِدَّة حكاياتٍ عن خطورة التهوُّر في الكلام، منها حكايات كَتبها الأدباءُ على ألسنةِ الحيواناتِ والطيورِ، كمَا يزخرُ بذلك الكِتاب الشهير في الأدب العربي: «كليلة ودمنة»، وكمَا في قصص التراث الإنسانيِّ مِن حكايات شعبيَّة، تناقلتها الأجيال عن ضرورة حِفظ الإنسان للسانه عن الوقوع في حُفر الزلل، ومهاوي الهلاك، ومِن أَشهر الأبياتِ الشعريَّة في هذا، ما نُقل عن الشافعي -رحمه الله-:
احفَظْ لِسانَكَ أيُّهَا الإنْسانُ
لاَ يلدَغَنَّكَ إنَّهُ ثعْبَانُ
كَمْ فِي المَقَابرِ مِنْ قَتَيلِ لِسَانِهِ
كانتْ تهَابُ لقَاءَهُ الشّجعَانُ
ومع كلِّ مّا قرأناه، وحفظناه مِن أقوالٍ وحكاياتٍ، وما تربَّينا عليه مِن آدابٍ دينيَّةٍ تحثُّ على أهميَّة الصمتِ عن فضولِ القولِ ورديءِ الكلام، إلاَّ أنَّنا والكثير مِن الناس، ما زلنا نغرقُ في أوحالِ الثرثرةِ المؤذيةِ للأسماع والقلوب والعقول، وتتلوَّث مجالسنا بأحاديثَ فارغةِ المضمون، وخصوماتٍ لسانيَّةٍ لا معنى لها، ولا فائدة تُرتجَى منها، وكذلك الحال مع الفضاءِ المزدحم بالمحطَّات المرئيَّةِ والمسموعة، والتي تحوَّلتْ إلى دكاكين للكلامِ المجَّانيِّ، مع استثناء القليلِ المفيدِ منها.
أمَّا مَا يُسمَّى بوسائلِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، فالحديثُ عنها يطولُ كثيرًا، ولا تتَّسعُ لهُ المساحة المحدودة لهذا المقال، فهذا ينقلُ نصيحة طبيَّة، يزعمُ أنَّها كانت السبب في شفاء أحدهم مِن مرض عُضال، وتلك تنسخ وتلصق قصةً قديمةً مكذوبةً، تعُود للظهورِ مِن وقتٍ لآخر، وهؤلاء يتناقلُونَ رسائل الإشاعات، ويدَّعون أنَّها أخبار ومعلومات مفيدة، وهي عكس ذلك تمامًا، والجميع في كلِّ الأحوال السابقة همُّهم الأوَّل أن يَسبقوا غيرَهم في نشْر ما يصلهم، وكأنَّهم بلا عقول تعرفُ الفرقَ بينَ ما يصلحُ للنشرِ، وما يجبُ أنْ يُدفَن في أجهزتهم، ولا يتعداها إلى غيرها.
ويأتي المزحُ كأحدِ أشدِّ سهام الكلام إيلامًا، وأعمقها جرحًا، وأبقاها أثرًا؛ لأنَّ المزحَ ينطوي على نسبة مِن القصد والعمد، حتَّى وإنْ زعم المازحُ أنَّها مجرد مزحة ودعابة صغيرة، يقول المثل العربي: «عندَ المزاحِ تشتكِي الأرواحُ». وإذا منحنا مساحة كبيرة لحُسن الظن في المزح؛ فإنَّ المطلوب مِن الشخص المازح أنْ يتحلَّى بالأدب، ويتَّصف بالذوق والفطنة، ويتحاشى المزح بكلام يحتمل تفسيرات مزعجة للمستمع، أو يسبب له الحرج في المجالس أمام الناس، وعلى المازح أنْ يتوقَّف حالاً وإلى الأبد، عن المزح باللسان، أو اليد مع مَن لا يتقبَّلونه، فلكلِّ أمرٍ حدٌّ يقفُ عنده، وإلاَّ ستذهب الأمور في طُرق غير محمودة العواقب.
هنيئًا لمن يسدِّد سهامَ الكلام إلى نَحْرِ الكذب والزُّور، ويدمغُ الأوهامَ بالحججِ البيّنات، والبراهين الساطعات، ويرسل قذائفَ الحقِّ لتصيبَ هامةَ الباطل، ويرفع رايةَ البيان مرفرفةً بسُطور النور في سماء الحقيقة الصَّافية، وشمسها الساطعة، ومرحَى لمَن تعلَّم؛ فنجا مِن فلتات لسانه وعثراته، واختار درْبَ الصدق لكلماته، وحثَّ في ميدان الحقيقة خطواته، يصغِي ويفكِّر كثيرًا، ويتكلَّم كلامًا قليلاً، ويتأمَّل طويلاً طويلاً.!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store