القرآن العظيم لا يذكر العقل إلاَّ في مقام التَّعظيم، ولا تأتي الإشارة إليه عارضةً، ولا مقتضَبةً في سياق الآية؛ بل تأتي في كلِّ موضع من مواضعها مؤكَّدة جازمة بالَّلفظ والدِّلالة.
تُثار في أحايين كثيرة مسائل تُعرض في شؤون العقيدة تارة، وشجون الحياة تارة أخرى، فيعتلي بعض الدُّعاة المنابر حسْمًا في مسألة كبرى أو صغرى، أو بسطًا في تقرير شأنٍ من شؤون الخلق، فينثرون على النَّاس لبوسًا عاطفيًّا يأخذ ألوانًا شتَّى من الكلمات والمواعظ التي درجوا عليها.
إنَّ المساسَ بعواطف النَّاس، واستدرار مخبوءاتهم الوجدانيَّة بالكلمات الرَّنانة، والجمل المسجوعة؛ تُعجب -ولا شكَّ- الكثير من الدَّهماء والعامَّة؛ ولكنَّ الشيءَ الذي لا مراءَ فيه أنَّها لا تقوِّم سلوكًا مستشريًا، ولا تقيم فعلاً معوجًّا، ولا تعدِّل سوءة ملتوية، وإنَّما مجرَّد سلوك (ديماجوجي) يستهدف تحريك ما سكن من عواطف النَّاس، وتهييج ما أسن من شعورهم بسقفِ طموحٍ متدنٍ في مقام الإصلاح والتَّقويم.
إنّ القرآن الكريم أشار في مواضع عدَّة إلى العقل في معرض آيات كثيرة؛ تعظيمًا له، تنويهًا بالاحتكام إليه في أوامر العقيدة والتّكليف. وإذا كان خطاب القرآن الكريم في كثيرٍ من مواضعه يعتمد التّكرار مخاطبًا العقل؛ فلا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها (النَّفسانيُّون)؛ بل تشمل وظائف الإنسان العقليَّة على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعدَّد التفرقة بين هذه الخصائص والوظائف في مَواطن الخطاب ومناسباته، -كما يعبِّر ابن رشد- فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يُناط به التَّأمل الصادق، والحكم الصحيح؛ بل يعمُّ الخطاب في الآيات القرآنيَّة كلَّ ما يتَّسع له الذِّهن من خصيصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها، إذ هي جميعًا ممَّا يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكِّر الذي يتولَّى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
إنَّ (العقل) من زاوية الاسم لم يُذكر في القرآن قطّ، ولكنَّ فعل (عقَل) في الماضي، والمضارع، وفي صيغة اسم الفاعل مذكور بكثرة، خصوصًا صيغة المضارع التي تفيد (بيان الحال)، ومع تنوُّع الصياغة والسياقات؛ فإنَّ مادة (ع.ق.ل) في القرآن ثابتة المعنى، بحيث يمكن القول: إنَّ مفهوم العقل في القرآن يشي -كما يقول بذلك المفكر محمد الجابري- إلى (القوَّة المتهيِّئة في النَّفس لقبول العلم)، ويعبّر عنها في الاصطلاح الكلامي والفقهي بـ(العقل الفطري أو الموهوب، أو الغريزي أو التمييزي)، وفي اصطلاح الفلاسفة (العقل بالقوة) أو الهيولاني، أو المنفعل...
ويشير الجابري بيانًا لمفهوم العقل إلى (العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوَّة)، ويعبّر عنه في الاصطلاح بـ(العقل المُكتسب)، أو (التّجريبي)...
وبصفة عامَّة يمكن القول: إنَّ مفهوم (العقل) في الاصطلاح الإسلامي ينصرف معناه، في مجال العقيدة إلى العقل المُكتسب، وفقدانه أو ضعفه ليس أمرًا طبيعيًّا؛ بل هو من نتيجة فقدان الرَّغبة في طلب المعرفة.
أمَّا في مجال التَّكليف الشَّرعي فيشير إلى القوَّة النفسيَّة، أو الملكة العقليَّة -لا فرق- التي ينفصل بها الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة في تعريف الإنسان بأنَّه (حيوان عاقل).