Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

الشتاء ولياليه..!

A A
تتغيَّرُ فصولُ العام باستمرار، وتتغيَّرُ أحوالُ الإنسان تبعًا لها، وهذه طبيعة كونيَّة، تستحق التفكُّر في إبداع الله تعالى، فالإنسانُ ابنُ بيئتِه، يتأثرُ بها، ويؤثِّر فيها. يأتي الصيفُ، وهُناك مَن يُحبّه وينتظره، ويليه فصلُ الخريف باعتدال جَوِّه؛ ليحفّزَنا على التأمُّل في لوحة الطبيعة الممتزجة الألوان، ما بين اخضرار الأوراق واصفرارها، وزُرقة السماء وتلبُّدها بالغيومِ أحيانًا، ويحلُّ فصلُ الشتاءِ بعواصِفه وشِدَّة بَرْدِه ورعوده؛ لننكفئَ على أنفُسِنا، نتدفأ على وقودِ الذكريات، وقديم الحكايات، حتَّى إذا أَطلَّ الربيعُ بمحيَّاه البهيج؛ بَثَّ فينا الأملَ، وكسانَا حُلةً مِن الفرح، كما تكتسي الأرضُ لباسَها الأخضر، وهكذا.. تدورُ عجلةُ الحياة، لتستمرَّ قِصتُنا مع تبدُّل الفصولِ الأربعة وتعاقُبها.

تمتلئُ الذاكرةُ بقصصٍ، لا تكادُ تنتهي، عن الشتاء ولياليه، والقاسم المشترَك بين تلك القصص جميعًا: الأبُ والأمُّ، وهنا يَرجَعُ الزمنُ بي إلَى سنواتِ دراستي بالمرحلةِ الابتدائيَّةِ، لأستعيدَ الذكرياتِ السَّعيدة مع أبي -رحمه الله- وأتذكَّر أنَّه بالرغم مِن قسوة البرْد شتاءً، إلاَّ أنَّ المرضَ، أو ما تُسمَّى بالإنفلونزا، لا تزُوْرُنا إلاَّ نادرًا، لقد كانَ لوالدي -غَفَرَ اللهُ له- ولكثيرٍ مِن الآباءِ، طريقة سهلة وفعَّالة لوقايتِنا مِن رياح الشتاءِ وبرودته، وهي ربْط الشماغ علَى الرأسِ، ثُم الرقبة بطريقةٍ التفافيَّة مُحْكَمة، تَجعلُ وصولَ البرْدِ إلى آذانِنا وصُدورنا مستحيلاً، وكَم ضَحِكْنا طويلاً على تلك الأيام، بعْد أنْ مضى العمْرُ، وأصبحَت الطفولةُ ذكرى سعيدة.

قامت أمّي -حَفِظها الرحمن، ومتّعها بموفور الصحة والقوة- بِدورِها الكبير والمهم في تدفئة أجسادنا وأرواحنا، وهلْ أَنسى الحليبَ الدافئَ الممزوجَ مع الزنجبيل؟!، حتَّى أكاد أتخيَّل أنَّ طَعمَ الحليب كان ألذَّ في تلك الأيام الماتعة، ولا أنسى أكلْةَ القُرَّاص، الوجبةَ الشَّعبيَّة الشتويَّة اللذيذة بمنطقة الباحة جنوب السعوديَّة، وهي نبتةُ القُرَّاص المطبوخة مع الدقيق، حيث تنمو بعد هطول الأمطار، أمَّا ارتداء الجوارب فَلها حكاية مُضحِكة، وأتذكَّرُ أنَّ أمِّي -رعاها الله- طلبتْني، ذات ليلة، أنْ أمدَّ قدمي، لتُلبِسَني الجَورب «الشُّرَّاب»، فما كان مِن أخي إبراهيم إلاَّ أنْ بادَر بمدِّ قدَمِه مِن تحت اللحاف، ولا عِلم لأمِّي بصنيعه، إذ كنا نحن الإخوة ننامُ متجاورِين، نتدفأ بلحافٍ واحدٍ، وكم ضحِكنا ليلتها، قبْل أن نُغمضَ أعينَنا للنوم.

كان الشتاءُ في طفولتنا يمتدُّ لعدَّة أشهُر في منطقة الباحة ذات الطبيعة السياحيَّة الفاتنة، ومع ذلك، كانت قلوبُنا تفيضُ بالسعادةِ، نستيقظُ مع الطيورِ صباحًا، نركضُ؛ فتسابق خطواتُنا الريحَ، أحببنا الحياةَ؛ فأحبَّتْنا، لَعِبْنا تحتَ الأمطار، وتلطّخَتْ ثيابُنا وأجسادُنا بالطِّين، تسلَّقْنا الأشجار، وراقَبنا الشمسَ مِن الشروق إلى الغروب، وكان مِن النادر أنْ يتغيَّبَ التلميذُ عن المدرَسة، نستيقظ على صوت أبي -رحمه الله- ينادينا لصلاةِ الفجر، تصنع لنا أمِّي فطورًا بسيطًا، نذهب إلى مدارِسِنا سُعداء، وكأنَّنا في نزهة، نجتمعُ في ليالي الشتاءِ حوْلَ أمِّي، نتدفأ بصوتِها وحكاياتِها، يتلاشى الزمنُ، ويبقى صوتُ أمِّي الساعة التي تحدِّد موعدَ نوْمِنا.!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة