مجرَّد أن يتخيَّل القارئ -الآن- هذه الصورة الموغلة في الإيحاش، وإثارة الخوف، مجرَّد أن يلتقطها من عين الشاعر نفسه، كما هي في الواقع، في تلك الحقبة الزمنيَّة البعيدة المتعثِّرة بين الموت والحياة، بين قسوة الطبيعة وشراسة الإنسان، فإنَّه لا شكَّ سيقبض على مشهد جديد تمامًا، ومختلف كليًّا عن رصيده الراهن من مشاهد الحاضر.
يا عويشه ما وردتي رِس ابن حيشه
رِسٍ خلا مدهلٍ للذيب سرحاني
هو مدهل الطير لا منّه نفض ريشه
عليه ورْق الحمام يجر الألحاني
وخلاصة الشرح، أنَّ الموقع الذي بنى عليه الشاعر بيتيه يتمثَّل في مورد ماء صغير غير عميق، في مكان وعر، بعيد عن المسالك المطروقة، لا يعرفه إلاَّ قلة من ذوي القدرات الخاصَّة على فتح أبعد مغاليق الصحراء، هذا المورد يُسمَّى عند البادية «الرس»، وعادة ما يظل معظم أيام السنة محتفظًا بالقليل القليل ممَّا يسد الرمق من الماء، لكن الصعوبة تكمن ليس في الوصول إليه فحسب، وإنَّما -أيضًا- في كونه موردًا للذئاب في الوقت نفسه، يعني ذلك أنَّه في وسط خلاء شاسع، لا يقطعه إلاَّ الذئب، والجسور من الرجال، وقد اقترن مصير الاثنين في قطرة ماء لا يعرف أيٌّ منهما مَن يسبق الآخر إليها، ثمَّ إنَّه -بالإضافة إلى ذلك- يُعدُّ ملاذًا آمنًا للطير الوحشي الذي لا يأنس إلاَّ للأماكن التي يغنِّي فيها من فرط شعوره بالأمان. تجتمع هنا -إذًا- عناصر الصورة التي لابدَّ منها؛ لتكون الوحشة في ذروتها، ويكون الخوف في أقصى درجاته، العطش، الخلاء، السباع، النزر اليسير من الماء المحفوف بمخاطر الطبيعة، الطبيعة المهيَّأة لقطع وإزالة آمال المراهن على البقاء فيها حيًّا. بعض القصائد تنبجس من قلب تجربة قاسية كهذه التجربة، فتكون بذلك الشاهد الوحيد الذي يبقى بعد أفول حياة الشاعر، تكون بمثابة «الرس» المتبقي من الشاعر الذي كانت منابعه الشعريَّة تملأ فصول حياته، لكنَّه مضى إلى تحلله الجسدي النهائي، تاركًا أطيافه الكثيرة تتراءى في نصوصه من بعده.