نتناول هنا المفهوم 13 من جهاز المفاهيم لدى الغذامي (انظر الجزء 4) وهو: وجود عملية استنساخ (إعادة إنتاج) تقوم بها الأنساق المضمرة من خلال الشَعْرنة، فالجميع كائنات شعرية. ومن يقرأ كتب ابن نبي خاصة شروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي ومشكلة الأفكار يجد هذه الفكرة تتكرر في ثنايا تحليله لداء القابلية للاستعمار أو الذات المعتلة المضمرة التي تحرك الأفكار والسلوك، فهو يعلل في كل مناسبة سر تطاول هذا الداء في ثقافتنا حتى امتد منذ انحدار ثقافتنا (منذ عصر ابن خلدون) إلى العصر الحديث بأن أصل المشكلة لا زال قائمًا؛ وهو استمرار الظرف البيئي الثقافي الذي يحتضن علاقات الأفكار والأشخاص والأشياء، ونحن لم نعِ أن المرض كامن في هذه البيئة الحاضنة، ولذا ستظل الأفكار المريضة والذوات المريضة تتجدد وتتناسل كما تتناسل اليرقات والديدان حسب تعبيره.
ومما قال بخصوص هذه الفكرة في سياق حديثه عن الوثنية الثقافية التي عرضناها في الجزءين السابقين ناقدًا انحراف قادة الثقافة في الجزائر عن طريق الإصلاح الذي كان يتمحور حول «الفكرة» إلى طريق الصراع السياسي وصناديق الاقتراع الذي تمحور بالناس حول «الصنم» (الزعيم السياسي)؛ قال: «في هذا اختلاس أيُّ اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها؛ فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية، تلك الوثنية التي تلد الأصنام المتعاقبة المتطورة كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة إذا صادفت جوًّا ملائمًا، وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة، وكل الذي كان هو أن أحداثًا صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها ثم لم تلبث بعد أن زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس وعادت إلى النوم، وأمكنها في نومتها هذه أن تعود إلى أحلامها، غير أنها أحلام ذات موضوع آخر، إنها أحلام الانتخابات، قامت على أطلال الزوايا المهدّمة التي دمرها الإصلاح الأول.. أرواحنا لا تزال مكدسة في محيط الطلاسم والخيال... ورِثَ الميكروبُ السياسيُ ميكروبَ الدروشة فأصبح يفعل بالشعب ما كان سلفُه يفعل؛ فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البَرَكاتِ والحروز أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية ويسعى لها في تعصب لا يفترق عن تعصبه الأول.. أصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله إلى شعب رشيد مع ما به من جهل وما تنتابه من أمراض اجتماعية» (شروط النهضة 35 ـ 34).
ويقول في موضع آخر ناقدًا فئة الإصلاح الجزائرية المذكورة نفسها: «يا له من احتيال لا يزال مستمرًا؛ لأن الوثن إذا كان لابد زائلاً بسبب عدم فاعليته فإنه كاليرقة تتجدد على كل الأشكال في المناخ الملائم، حيث تترعرع المرابطيّة التي تنتج الصنم.. وهذا يعني أننا لم نُشْفَ بعدُ من هذا المرض، وينبغي القول بأنه في مستوى النخبة لم يكن هذا المرض نقيًا كما هو عند الشعب؛ فنخبتنا المثقفة على استعداد لأن تأكل في سائر المعالف!» (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 100 ـ 101) [يقصد بالمرابطية الدروشة، وهي نسبة إلى المرابطين الذين حكموا دول المغرب العربي في مرحلة سابقة وانتشرت الصوفية في عهدهم مُرسِّخةً معها الخرافة والدروشة والخمول عن طريق الأضرحة والقباب والمزارات والخِرَق إلخ مظاهر التصوف المنحرف].
ونكتفي بهذين النصين الذين تتضح فيهما فكرة التوالد المستمر للكائنات المريضة في الثقافة، فماذا نجد مقابلهما في جهاز المفاهيم لدى الغذامي؟ نجد مقولة «استنساخ النسق المضمر» فما الفرق المضموني يا ترى؟! إننا لا نجد إلا فرقًا لفظيًا هو نفسه الآلية التي بها تمت عملية السرقة العميقة، وهي آلية الترادف؛ فبدل توالد الأصنام والتمثيل بتوالد الدود واليرقات استُعمِلتْ عبارة: «استنساخ النسق»!! أما كون هذا الاستنساخ يتم من خلال «الشعرنة» فقد اتضح مما سبق أن الشعرنة تحريف للشعرية لدى ابن نبي، وأن الشعرية لديه هي أخطر أمراض الذات المضمرة القديمة المحركة للفكر والسلوك على ما أفاض في كتابه «وجهة العالم الإسلامي»، فلا اختلاف في المضمون أبدًا.
أما المفهوم 14 في جهاز المفاهيم لديه فهو أن من أنواع النسق المضمر: أنساق الرفض والمعارضة التي تمثل هوامش الثقافة (انظر النقد الثقافي 88، والفصل الخامس). والآلية المنهجية التي يستعملها لكشف وتحليل التعارض النسقي والتي زعم أنه أحدث بها نقلة نوعية في منهجية نقد الأنساق المضمرة هي ما سماه «التورية الثقافية» التي تتضمن دلالة مزدوجة؛ فهي تحمل المعنى ونقيضه. وقد سبق في الجزء الثالث من هذه السلسلة نقدٌ موجز لهذه الآلية مع غيرها من آلياته التي زعم أنها تشكل نقلة نوعية في المصطلح النقدي كالمجاز الكلي والدلالة النسقية؛ وخلاصة هذا النقد أن عمله هنا ضرب من العبث والتهريج؛ لأن المفهوم المركزي الذي تقوم عليه هذه المفاهيم المذكورة ـ وهو ما سماه «الجملة الثقافية» ـ عائمٌ ولا طائل تحته كما سبق بيانه؛ مع أنه يمثّل ـ حسب المفترض ـ وَحْدة التحليل في مشروعه، فإذا كان التعريف الذي قدمه لهذه الوحدة التحليلية المركزية مجرد جعجعة فارغة من المضمون المنهجي المحدد فما بُني عليها يكون فارغًا من باب الأولى كما سبق بيانه.
وقد سبق في الجزء الخامس من السلسلة بيان اختطاف فكرة التعارض أو الازدواج في النسق الثقافي بين الضمر والعلني، ونقلنا نصوصًا لابن نبي من شروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي، ونضيف هنا نصًّا آخر لابن نبي يؤرِّخ فيه لبداية هذا التعارض المرَضي في جسد الثقافة الإسلامية إذ يقول: «عَرف هذا العالم [الإسلامي] أول انفصال في تاريخه في معركة صفين عام 38هـ؛ إذْ كان يحمل بين جنبيه بعد قليل من سنوات ميلاده تعارضًا داخليًا؛ كانت حميّة الجاهلية تصطرع مع الروح القرآنية...» إلخ (انظر: وجهة العالم الإسلامي 25). لكنّ هنا شيئًا جديدًا سنكشف عنه؛ وهو بيان اختطاف الفكرة الجوهرية في كتاب «الثقافة التلفزيونية» من ابن نبي كذلك!! فهذا الكتاب قائم من حيث النظرية على مفهوم التعارض النسقي الذي سبق بيان اختطافه من ابن نبي، وقائم من حيث مجال التطبيق على ثقافة الصورة، وغايته ونتيجته الأساسية إبطال مقولة «الغزو الفكري/ الثقافي» بالتصور المعهود في ثقافتنا المعاصرة، وسنبين في الجزء التالي أن هذه النتيجة مختطَفة من ابن نبي؛ فأصبح كتاب الثقافة التلفزيونية في مجمله مختطَفا نظريةً ونتيجةً من مالك بن نبي!! كما كان كتاب «حكاية الحداثة..» مختطفًا منه بل متجاوزًا حدّ الاختطاف إلى التقمص!!