من الذي سيتغير أولًا : سياسات ترامب، أم سياسات منطقة الشرق الأوسط؟ !..
سؤال تتعلق عيون المراقبين بلوحته الإلكترونية ترقّبًا لجواب، لكنني أظن أن الجواب قد يتأخر قليلًا، لعوامل يتعلق بعضها بترامب ذاته، وبعضها الآخر، بورثة أمريكا في الشرق الأوسط، وبعضها الثالث بتفاعلات الشرق الأوسط مع ذاته، ومع العالم .
كل تشدد من جانب ترامب إزاء طهران، سواء فيما يتعلق بطموحاتها الإقليمية، أو ببرنامجها النووي، سوف يعني تلقائيًا، إعادة ترميم تحالف تاريخي بين واشنطن وبين دول الخليج العربية والأردن ومصر، لكن هذا التشدد لن يقود بالضرورة، إلى إضعاف طهران، التي طوّرت آليات للتكيّف مع العقوبات والحصار، فضلًا عن تحليها بسمت صانع السجاد الصبور، الذي اعتاد أن يضع عقدة فوق عقدة على مدى سنوات قبل أن ينتج قطعة فريدة من السجاد .
يبدي الرئيس الأمريكي ترامب اهتمامًا مباشرًا، بالكلفة المالية لسياساته تجاه المنطقة، ويتصور في أغلب الأحيان، أن مسؤوليات بلاده تجاه حلفائه في أوروبا والشرقين الأقصى والأوسط، هي مهام ينبغي أن يُسدِّد فاتورتها المستفيدين منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حتى لو كانت تلك المهام تحقق مصالح أمريكية مباشرة في ذات الوقت، بينما يبدي حلفاء واشنطن التقليديون حول العالم تبرمًا من هذا التصور، باعتباره غير دقيق، أو غير ناضج .
وبينم ايُعوِّل حلفاء واشنطن التقليديون على الزمن باعتباره كفيلًا بتغيير أفكار ترامب، فإنهم ينظرون حولهم بحثًا عن خيارات بديلة، أقل كُلفة وأعلى مصداقية .
أحد الخيارات البديلة، هو السعي إلى امتلاك سلة ضمانات استراتيجية عبر تحالفات ثنائية أو متعددة الأطراف، ضمن تصور لنظام أمن إقليمي لم تتمكن منطقة الشرق الأوسط من بلورة مكوناته بعد .
أحد الخيارات كذلك، قد تكون عبر تفاهمات مع أوروبا، التي لم تعد تثق في إمكانية الحصول على مظلة أمنية أمريكية تصون رخاءها دون أعباء مالية وسياسية كبيرة .
في كل الأحوال، فقد تغيَّر وجه واشنطن، واستدارت وجوه حلفائها بحثًا عن غطاء أمني بديل، في عملية ديناميكية من شأنها التسريع بالانتقال إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، قد يسمح بقدر ولو ضئيل من الاستقلالية للقوى المتوسطة والصغيرة .
النصائح التي يتلقاها ترامب من مراكز الدراسات الأمريكية المتخصصة (think tank) ،ومن خبراء أمريكيين في شؤون الشرق الأوسط، تُركِّز في أغلبها، على نصح ترامب بالإبقاء على منطلقات تقليدية للسياسة الأمريكية تجاه الإقليم، مثل مكافحة الاٍرهاب، وحظر الانتشار النووي، وضمان حرية ممرات التجارة، وتدفق إمدادات الطاقة، أما محاولة تغيير الأوضاع في دول الإقليم تأسيًا بالنموذج الأمريكي، فهي آخر ما يتعين على ترامب أن يفعله .
نفس الخبراء ينصحون ترامب بتوخي الحذر، عند محاولة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة، كجماعة إرهابية أو داعمة للإرهاب، باعتبار أن هذه الجماعة تُمثِّل المعارضة في الأردن، وتتشارك في حكم تونس والمغرب، وأن حظرها قد يقود إلى اضطراب الأوضاع في تلك الدول، لكن ثمة دواعي عملية لحظر تلك الجماعة بالولايات المتحدة، ربما تقود إلى حظرها كمنظمات مستقلة، تحمل أسماء متعددة لهوية إخوانية واحدة مثل حركة حماس مثلًا، وبعض الجماعات التي أفرزتها أحداث الربيع العربي وما تلاها .
الشرق الأوسط لا يملك ترف انتظار ما قد تجود به سياسات ترامب، وهو يُفتِّش طول الوقت عن تحالفات جديدة، ومصادر بديلة للقوة، وقد بدأت حركة دول في الإقليم نحو تنويع مصادر السلاح، وبناء تحالفات جديدة .
كذلك فإن إدارة ترامب لا تملك لا ترف الوقت، ولا ترف التجربة والخطأ، ولهذا فإن عوامل التغيير تطال سياسات المنطقة، وتنال من أفكار ترامب المعلنة إبان حملته الرئاسية أو في أعقابها .
العالم يمضي باتجاه اقتسام المخاطر، لا اقتسام الغنائم، ما يقود بالضرورة إلى إعادة بناء خارطة التحالفات الدولية والإقليمية، ويُعجِّل في الوقت ذاته بميلاد نظام دولي متعدد الأقطاب .. غرفةولادة النظام الدولي الجديد، عندنا، هنا، في الشرق الأوسط، وليس في سواه .