ليس بَرْدُ الشتاءِ القارس وحدَه الذي ترتعشُ منه أطرافُنا، وترتجف بسببِه أضلاعُنا؛ لننكفئَ على أنفُسِنا، ونقلِّبَ دفاترَ ذكرياتِنا، فهناك أسبابٌ عديدةٌ، تسبِّب لنا بَرْدًا مِن نوعٍ آخَر، لا يقِلُّ وجعًا عن بُرودةِ الجوِّ وقسوتِه شتاء، وربما يتجاوزُه في حجمِ الألم وعُمقه، إنَّه عدم الاهتمامِ وبُرود المشاعر، وذلك بأن يكُون حضورُنا وغيابُنا سواء، بالنسبةِ لمَن اعتقدْنا أنَّهم يهتمُّون لأمرِنا مثلما يهمُّنا أمرُهم كثيرًا؛ فتصيبنا الحيرةُ مِن تصرُّفاتِهم، ويلفُّنا الأسى على حالِهم قبْلَ حالِنا، وكأنَّهم وكأنَّنا كما قالَ نزار قبَّاني، رحمه الله:
يا مَن علَى جِسْرِ الدُّموعِ تركْتَني
أنا لستُ أبكي مِنكَ بَلْ أبكِي عَليك
حتى لا يستعجلَ أحدُنا اللومَ لمَن يُحب، ويقعَ في الخطأ مرَّتين بجهلِه ورعُونتِه، فإنَّه يبادرُ بالسؤالِ عن سببِ صُدودِه، ويطلبُ تفسيرًا لإعراضِه، إغلاقًا لأبوابِ الظنونِ السيّئة، وطَرْدًا لأوهامِ الاعتقاداتِ الخاطئة، وكَم يفرحُ الإنسانُ العاقلُ عندما يجدُ لدى صديقِه مبرِّراتٍ منطقيَّةً للعتَب، وتزدادُ سعادتُه إذا تأكَّد أنّ حِبالَ المودَّةِ ما تزالُ ممدودةً متينةً، لكنْ أصابَها بعضُ الوهنِ لظُروفٍ مؤقَّتةٍ وأحداثٍ طارئةٍ؛ فيبادر هو أيضًا بقبولِ اللّوم، ويعمل مع صديقِه بصِدقٍ وإخلاصٍ على شدِّ روابطِ المحبةِ؛ لتعودَ إلى سابِقِ عهدِها وأجمل، في القوةِ والحُبِّ والعطاءِ، وهذا ما يُفترَضُ أنْ يحدُثَ باستمرار، متى ما كان الناسُ مُدركِين القيمةَ الثمينة، والمكانةَ الرفيعة، لما يَجمعُ بينَهم، ويؤلِّفُ قلوبَهم مِن وشائجِ القُربى، وأواصرِ الودِّ والوفاء.
للكلماتِ دفءٌ يَحتضنُ القلبَ، ويُنعِشُ الذاكرةَ، ويجعلُ القلقَ يتلاشى، والخوفَ يتبدَّد، الكلمات الطيِّبة كالبلاسمِ للجُروح، تخفِّف الألمَ، وتردُّ النومَ للعُيون، والراحةَ للموجوع، والفرحَ للمحزون، ويا عجبًا كيف لا يَصِفُ لنا الأطبَّاءُ كلامَ مَن نُحِبُّ كدواء، أو كما قالت الأديبةُ الكبيرةُ، أحلام مستغانمي: «أيُّ عِلْمٍ هذا الذي لَمْ يَستطِعْ أنْ يضعَ أصواتَ مَن نُحب في أقراص، أو زُجاجةِ دواءٍ نتناولُها سِرًّا عندما نُصَابُ بوعكةٍ عاطفيَّةٍ، بدون أنْ يدري صاحبُها كَم نحنُ نحتاجه»، والأمرُ هنا حقيقة ملموسة، وليس مجرَّد عِبارةٍ أدبيَّة عذبة البيَان، فيكفينا أنْ نقرأَ أو نسمعَ كلماتِ أحبابِنا؛ لنغدو أبهى وأقوى، وكأنَّ رسائلَهم وكلماتِهم وأصواتهم تنوبُ عن حُضورِهم، فترسمُ لنا ملامحَهم رغم البُعد والغياب.
دفء الكَلماتِ يَسري إلى خلايا الجَسد، ويتسلَّلُ إلى زوايَا القلبِ بِلا موعدٍ سابِق، ولا استئذانٍ في الدُّخول، وحين تصلُ إلينا الكلماتُ مِن صَديقٍ أو حبيبٍ؛ نشعرُ معها بدفءٍ حقيقيٍّ وطمأنينَةٍ عميقةٍ، تُزهِر معها أيامُنا، وتصنعُ لحياتِنا معنى، ولوجُودِنا قِيمة، وهكذا يَفعلُ الأقاربُ والأصدقاءُ الأذكياء، يَدسُّون الرسائلَ الصادقةَ المعطَّرةَ بالودِّ في هواتفِنا، لا تفُوتُهم مناسباتُنا السعيدةُ أو الحزينة، ولا ينتظرون الأعيادَ ليبعثوا التهاني، إنَّهم يصنعون الفرحَ في غيرِ الأعياد؛ لتغدو لنا الأيامُ كلُّها فرَحًا وأعيادًا، وهو ما يوصَفُ بالذكاءِ الاجتماعي، ومِن وسائلِ تحقيقه: الاستخدامُ الأمثل للهواتفِ الذكيَّة، حتى تصيرَ أدواتٍ الإشاعةِ المحبَّةِ بينَ الناس، وزراعةِ معاني الأمَلِ والتفاؤل في بساتينِ القُلوب..!