لقدْ كانَ في قصصِهم عبرةٌ! مَا كانَ حديثًا يُفترَى! هو الحقُّ الذي يسوقه العليمُ الحكيمُ؛ كي يعلِّمَ النَّاسُ، وكي يتعظَّ أولو الألبابِ.
ومع أنَّ كثيرًا من قصص الأقوام الغابرة (التي هلكت بسبب تكذيبها وجحودها)، تبدو بسيطةً في المضمون، واضحةً في النهايات والمآلات، إلاَّ أنَّها تتكرَّر حتَّى في عصورنا الحاضرة، وإنْ اكتست بثياب أخرى، وألبست أشكالاً مختلفة. مثلاً يظلُّ الشرك شركًا، ولو اختلف الشريك! قد يكون صنمًا، وقد يكون وثنًا، وقد يكون بشرًا، وقد يكون فكرًا. لكنَّه في المجمل شركٌ مهما اختلفت المسمَّيات والحوادث والظروف والبيئات.
وبعض مَن أشرك يعبدُ مَن كان والداه يعبدان! هكذا تقليدًا بدون علم، وإصرارًا دون تفكير، ومكابرةً بغير سلطان. وهكذا فعل قوم عاد، فاحتجُّوا على هود عليه السلام: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)؟.
وآخرون لا همَّ لهم إلاَّ مخالفة الحق، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنَّه الحق: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). وقوم ثمود عيّنة من أولئك الذين يتكرَّرون عبر التاريخ، وحتَّى قيام الساعة، فعندما أعلنت الفئة القليلة المستضعفة من ثمود إيمانها بوحي السماء، ورسالة التوحيد: (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)، جاءهم ردُّ الفئة المستكبرة المستعلية فورًا وبلا نقاش: (إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ).
وكم شهد النصفُ الثاني من القرن المنصرم مشاهدَ مماثلة، تضمَّنت فصولها مواقف تكرَّرت، ولكن في قوالب مختلفة، وأشكال متنوِّعة، تبدو عليها مظاهر العصرانيَّة، وهي في الداخل خواء، وتتباهى بالحداثة، وهي في الأصل قديمة قِدم نوح عليه السلام. الجديد فيها أن أصحابها اليوم يرتدون ملابس مختلفة، ويتحدثون لغاتٍ مختلفة، بيد أنَّ المنبع واحد، والتوجهات متشابهة، والمآلات -والعياذ بالله- واحدة.
ولعلَّ أشدَّهم بؤسًا أولئك الذين يحسنون التعرُّض لوهج الإعلام المعاصر، فيتلمَّعون ويُلمِّعون، ليقولوا منكرًا من القول وزورًا. ليس الإعلام المحايد الصادق مهنتهم، وإنَّما يندرجون تحت الوصف الرباني الدقيق: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
ويلٌ لهؤلاء ممَّا كتبت أيديهم، وممَّا نطقت به ألسنتهم، وممَّا غرَّدت به أفكارهم وانحرافاتهم!