لم يحظَ أي جنس أدبي في الساحة العربية قديمًا وحديثًا بمثل ما حظي به الشعر، من عناية ودراسة، وتقعيد للقواعد الضابطة لشروطه الضرورية، إلى غاية أن التصق هذا الفن الأدبي بالعرب دون غيرهم من شعوب الأرض، فسارت مقولة «الشعر ديوان العرب» مسرى المثل الثابت، والقول الدال على حقيقة ما كان عليه الشعر عند العرب قديمًا.. الذين صاغوه في قوالب موسيقية عرفت لاحقًا بـ»أوزان الشعر»، و»بحوره» وبلغت - بإحصاء الخليل بن أحمد الفراهيدي وما استدرك عليه من بحر - (16) بحرًا، مستندها في الأساس على الموسيقى لا غيرها، ولهذا جاءت التعريفات القديمة للشعر كلها بلا استثناء حفية بشرط «الموسيقى» كأساس للتفريق بين الشعر وغيره من ضروب الإبداع الأدبي الأخرى، فقد عرف بأنه: النظم الموزون، وحده ما تركّب تركبًا متعاضدًا، وكان مقفى موزونًا، مقصودًا به ذلك. فما خلا من هذه القيود أو بعضها فلا يسمى (شعرًا) ولا يُسمَّى قائله (شاعرًا)..
وذهب آخرون إلى وضع (4) أركان أساسية لاكتمال فن الشعر، تنظر في: المعنى، والوزن، والقافية والقصد..
وشيئًا فشيئًا بات ينظر للشعر بغير هذه العين الراقبة والشروط الصارمة، فوصفه القائل بأنه: «علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء»..
وذهب بعض «المنطقيين».. إلى القول بأنه: «قياسٌ مؤلف من المخيلات، والغرض منه انفعال النفس بالترغيب والتنفير، كقولهم: الخمر ياقوتة سيالة، والعسل مرة مهوعة»..
وعلى النسق يمكننا أن نمضي مع الشعر في كل الحقب، فلا نكاد نمسك بتعريف ضابط جامع، ولا ينبغي ذلك، ولن يكون ذلك ميسورًا طالما أن حركة الإبداع في هذا الفن ظلت في اطراد وتطور مستمر، قياسًا على ما أنتجته المدارس الشعرية على اختلاف مشاربها وهويتها ومنطلقاتها..
ولئن استقر الشعر في بحوره الـ(16) ردحًا طويلًا من الزمن، فلقد «شاغبته» في العصر الحديث صور أخرى وأنماط من الشعر، حركت الساكن، وأعادت الجدل، وأكبر هذه «الخروقات» ظهرت مع الشعر الحر، وقصيدة التفعيلة، التي نوّعت في الموسيقى، ولم تخرج عنها، وخالفت «الخليل» فجوبهت بحرب شعواء، حيث أخرجها «المحافظون» من كراسة الشعر جملة واحدة، وذهب «غلاتهم» إلى القول بوجود مؤامرة على العربية بإدخال هذا النمط من الشعر.. ولكنها مضت حتى أثبتت حضورها، مع مناوشة باهتة الصوت لها بين الحين والآخر.. لتفجر «قصيدة النثر» الوضع بكل احتمالات التشظي، والتي بلغ تمردها غايته وهي «تكسر» المزهر الشعري، وتقطع «أوتار الخليل» عن جسد القصيدة الحديثه، وتجعلها رهنًا «للموسيقى الداخلية» في الألفاظ المستدعاة في جسد القصيدة..
وفي اللحظة الراهنة يحتفي العالم العربي بيوم الشعر.. وتصعد «القصيدة العربية» إلى المنابر، وسيسمع الناس القصيدة الكلاسيكية، وسيطربون لقصيدة التفعلية، ولن تعدم قصيدة النثر معجبًا.. فالأمر في بساطة ويسر مناطه على المتلقي: فقل ما لديك، واترك الحكم له، بلا إقصاء أو تهميش أو مزاحمة..
وكل موسم شعري وأنتم في تحليق مع أجنحة القوافي الصادحات، والمعاني الباذخات.. والصور المورقات.. والقصائد التي تؤنسن الحياة وتعبر بنا إلى زهر النجوم.
الشعر العربي: مغامرة الإبداع من «قفا نبك».. إلى تمرد «قصيدة النثر»
تاريخ النشر: 22 مارس 2017 03:14 KSA
بين احتفالية يومه العالمي..
A A