«قالت الشجرة: اقطع جذعي واصنع منه قارباً لتبحر بعيداً، ولتغدو سعيداً أيها الصبي. وهكذا قطع الصبي جذعها وصنع قارباً وأبحر بعيداً، وكانت الشجرة سعيدة»
هذا المقطع من القصة الدرامية الشهيرة للأطفال (الشجرة المعطاءة) لشيل سيلفرستين يعطي فكرة مختصرة عن الطبيعة المجازية لنصه، ورغم أنه نص مكتوب باحترافية ليناسب عدة أعمار إلا أن الاستعارة المطولة فيه تعطيه بعداً معنوياً يطرح السؤال التالي: هل بإمكان الطفل أن يفهم المجاز؟
هل يمكن للطفل أن يفهم جملة مثل: قلبك معطاء كالشجرة، أو كانت الشجرة سعيدة؟
لكن أليست اللحظة التي تتكشف فيها للطفل العلاقة بين الفرح والابتسامة المصاحبة له أو بين الحزن والبكاء هي لحظة بناء التعالق بين الحرفي والمعنوي في ذهنه؟ أليس بناء الانفعال وترجمة المشاعر التي تختلج صدر الطفل هي إيحاءات مجازية ولوكانت في صيغتها البدائية؟ الطفل ذو الأعوام الثلاثة حين يرسم شخمطات على شكل دوائر أو خطوط ثم يشير إليها: هذه ماما وهذا عصفور، ألا تعطي هذه الترابطات بين الشكل الدال واللغة المنطوقة علامات بدائية على خلق الاستعارة؟
نعم للطفل قدرة فائقة على صنع الاستعارات لكنها ليست مجازاً لغوياً معقداً كما يفهمه الكبار، فالتشبيه في ذهن الطفل ليس تشبيهاً تقليدياً وهو ناتج عن الخيال وتكوين صور ذهنية غير ملزمة بالواقع بل نابعة من تصورات بدائية لعوالم الطفل تناسب إدراكه للعالم ومستوى فهمه.
المعترضون على هذه الفكرة يقولون إن تشبيه شخمطات الطفل بالعصفور ليست مجازاً حقيقياً، وأن افتعال استعارة حقيقية يستلزم الكثير من المعارف التي تتحول ذهنيا لمفاهيم، حيث يتمكن الطفل من بناء المقارنات وصنع نماذج التشابه المطلوبة وخلط الفئات المفاهيمية المتعارف عليها لصنع فكرة مجازية، وهو مالا يملكه الطفل، لكن رغم ذلك فالجميع يتفق على أن الدخول في عالم الاستعارة ليس نقطة فاصلة في البنية الإدراكية للطفل أي أنها لا تحصل بين يوم وليلة كنتيجة لتمرحل النمو ، لكنها تحدث بالتراكم والتدريج وهذه أخبار جيدة ، لأنه طالما أن القدرة على التعليل المجازي ليست مرتبطة بالضرورة بالبنية البيلوجية الحاسمة لكنها تعتمد بشكل كبير على التراكم المعرفي، هذا يعني أنها معتمدة مباشرة على إثراء بيئة الطفل.
سنعود هنا لسلفرستين الذي خلق استعارة مطولة في قصته الشهيرة المذكورة أعلاه، وهل يمكن لوسيط أن يكون أكثر تأثيراً في إثراء بيئة الطفل وأن يمايز الحصيلة اللغوية والمعرفية والإدراكية لديه من الأدب ؟ الأدب بشكل عام بوظيفته السردية هو الأجدر بصنع عوالم الاستعارة المعقدة في أذهاننا، وأدب الطفل بشكل خاص جدير أن يساهم في تطور التعليل المجازي عند الطفل شرط أن لا يخاف أدب الطفل من تقديم المجاز ويرجح كفة اللغة الأدبية والفكرة المجازية بغموضها ولذتها على النماذج المدرسانية التقليدية.
صنع الاستعارات هو الصيغة الأكثر كمالاً في اللغة وهو المنفذ الأدبي والشعري للسرد والتعبير والتواصل الخلاق، الحديقة السرية التي نعبث بها بعيداً عن هيبة وسمت اللغة، صنع الاستعارات هو غاية التطور اللغوي لأنه صفة حكر فقط على اللغة البشرية دون وظائف اللغة الأخرى التي نشترك بها مع باقي الحيوانات. وآن لأدب الطفل أن يفتح بوابة هذه الحديقة السرية دون خوف .