تكرَّرت في القرآن الكريم عدَّة مرَّات قصَّةُ نبيِّ الله شعيب عليه الصلاة والسلام، الذي بُعث إلى (مدين)، فكانت رسالته واضحةً موجزةً، يفهمها كلُّ عاقل راشد. هي باختصار أن اعبدوا الله ولا تشركوا به! ويلحق بهذا التوحيد لزوم ترك داءٍ استشرى بينهم، هو التطفيف في الكيل، والغش في الميزان. هذا الداء البغيض ينتج عنه داءٌ أعم وأشد وأشرس هو الفساد في الأرض بعد إصلاحها.
ومن مقتضيات الفساد حين يعم ويقوى وينتفش أن يصدَّ الآخرين عن الحقِّ، لا يريدها إلاَّ عوجًا، وإلاَّ ضلالاً، وإلاَّ رذيلةً، وإلاَّ بُعدًا عن الحقِّ ابتعادَ المشرقِ عن المغربِ.
وحين يشعرُ المجتمعُ أنَّ الغشَ هو الأساس في معظم التعاملات إلاَّ ما رحم ربي، بدءًا في التعليم في الصغر، وانتهاءً بالرشوة والاختلاس في الكبر، عندها يكون الفسادُ قد انتشر! عندما تتناول طعامًا في مطعم، وفي ذهنك تدور مشاهد للحومٍ مغشوشةٍ، وخضراواتٍ، وفواكه بمياهٍ آسنةٍ مروَّية، ومعلَّبات تواريخ صلاحيتها منتهية، فاعلم أنَّك شاهدٌ على عصر التطفيف في الكيل، والغش في الميزان.
وعندما تشتري قطعة غيار، فتُقلِّبها وتفحصها، ثمَّ تستحلف صاحبها على أصالتها، فاعلم أنَّك شاهدٌ على عصر التطفيف في الكيل، والغش في الميزان. وعندما يسوقك قدرك إلى مستشفى خاص، أو عام، وأنت في قلق بالغ، يتلبَّس عليك كيانك خشية أن يُشخِّص حالك طبيبٌ مُتسرِّعٌ مغرورٌ، أو صاحبُ مُؤهَّلٍ (مضروب)، أو أن تكون بعض التجهيزات والغيارات والعلاجات (مغشوشةً)، فاعلم أنَّك شاهدٌ على عصر التطفيف في الكيل، والغش في الميزان.
وعندما تُحدِّثك نفسك بأنَّ المشروع الذي أمامك قد كلّف مئات الملايين، وفي قرارة نفسك أنَّه لا يُساوي سوى مئات الملاليم، فأعلم أنَّك شاهدٌ على عصر التطفيف في الكيل، والغش في الميزان.
وإذا كان هذا الحال شائعًا، فاعلم أنَّ الفساد قد قويت عظامه، واشتدَّ بأسه؛ لدرجة أنَّ بعض ربعه لا يريدونها إلاَّ عوجًا، وإلاَّ انحرافًا.