حياةُ الإنسانِ محصِّلةٌ لمجموعةٍ مِن التجاربِ، يجتازُ خلالَها عددًا مِن التضاريسِ المتنوِّعةِ، فتارةً يصعدُ الجبالَ الوعرةَ، وببلوغِ القمةِ يستنشقُ أوكسجينَ النجاحِ المنعِشِ، وربَّما يصادفُ في طريقِهِ أوديةً سحيقةً مخيفةً، هي أوديةُ الألمِ والحرمانِ والمعاناةِ، ولها أهميتُها الكبيرَةُ في حياتِنَا، إذ تمدُّنَا برصيدٍ عظيمٍ مِن الخبرةِ، يبقَى معنَا مدى العُمرِ، بشَرطِ أنْ نستوعبَ دروسَ الأزماتِ، وننطلقَ لمواصلةِ الطريقِ، مع المزيدِ مِن العملِ الجادِّ والأملِ المتجدِّدِ، وقد نعبُرُ صحراءَ الجفافِ، وتلفحُ وجوهَنا سمومُ الفراقِ، وما نلبثُ أنْ ندخُلَ واحةَ الشوقِ، ونرتوي مِن ينابيعِ اللقاءِ، وهناكَ مَن يركضُ بنشوةٍ على السهولِ والسواحلِ الممتدَّةِ، حيثُ يصِلُ النَّظرُ، سُهولَ السعادةِ، وسواحل الطمأنينَةِ المحاذيةِ لبَحرِ السَّكينةِ واليقينِ.
فِي محطَّاتِ العُمرِ الكَثيرُ مِن التَّفاصيلِ الصَّغيرةِ، تستوجبُ التوقُّفَ عندَهَا والتفكيرَ فيهَا، ذلكَ أنَّها تشكِّلُ في مجموعِها الأهدافَ الكبرَى، والغاياتِ العُظمَى في مسيرةِ كلِّ إنسانٍ، وإذَا مَا تركْنا تلكَ التفَاصِيلَ لرياحِ الصُّدَفِ؛ فسنحصدُ الوهمَ، ونمضغُ الهواءَ، ونقبضُ السَّرابَ، وهذا لا يحدُثُ مع الناجحِينَ، الذينَ ينقلُونَ خطواتِهم بوعي، متَّجهِينَ إلى غاياتِهم بأحلامٍ عريضةٍ، وخططٍ مرسومةٍ، وأفكارٍ واضحَةٍ، هؤلاء القَومُ الرائعُونَ يدركُونَ أنَّ العمرَ رحلةٌ يستمتعُونَ بهَا؛ فيضعُونَ صورَ الأحلامِ لكلِّ مرحلةٍ يقطعُونَها في إطاراتٍ زمنيَّةٍ، يَعرفُونَ ماذَا يريدُونَ مِن يومِهم وليلتِهم، ولهُم معَ الأسابيعِ والشهورِ والأعوامِ حكاياتٌ وأسرارٌ مليئةٌ بتفاصيلِ الإنجازِ والتقدّمِ نحوَ المزيدِ مِن تحقيقِ الأمنياتِ، ومعانقةِ الفرحِ.
التفاصيلُ الصَّغيرةُ هي نحْن، وكلُّ مَا ينتمِي إلى ذواتِنَا، ويصنعُ بنَا الاختلافَ والتجديدَ، ويضيفُ إلينَا المعنَى العَميقَ، ويشكِّلُ الجوهرَ في عقولِنَا وأرواحِنَا، الأنفاسُ التي تتردَّدُ في صدورِنَا، النبضاتُ المتواليةُ بقلوبِنَا، روزنامةُ الأيامِ المعلَّقةُ على الحائطِ، ومَا تحملُ لنَا مِن أقدارٍ، وينتظرُنَا فيهَا مِن وعودٍ، المواقفُ المتنوِّعةُ ومَا تُسقِطُ مِن أقنعةٍ، وتزيلُ مِن مساحيقَ تجميلٍ، الضحكاتُ المنطلقةُ سعادةً في حضرةِ مَن نُحبُّ، الدموعُ التي تركتْ علَى خدودِنَا أثرًا لا يُمحَى، النظراتُ واللفَتاتُ المحِبَّةُ والمتردِّدةُ والمرتعدةُ خوفًا، الحنينُ الساكنُ بيْنَ ضُلوعِنَا، الذكرياتُ التي نستودعُهَا حُجُراتِ القلبِ، وشُقوقِ الذاكرة، الحكاياتُ المرسومةُ على خطوطِ أيدِينَا، وكأنَّها طرقاتُنَا في الحيَاة، تتعرَّجُ مساراتُهَا وتنحنِي؛ لتأخذَ خطواتِنَا إلى وجهاتٍ لا تنتهِي.
يا أصدقاءَ الكلماتِ والأفكارِ، لا ينتبهُ للتَّفاصيلِ الصَّغيرةِ إلاَّ مَن امتلكَ ذِهنًا متَّقِدًا، وروحًا نقيَّةً، وإحساسًا مُرْهَفًا، ذلكَ أنَّ الحَواسَّ لديهِ تلتقطُ أمورًا كثيرةً، تمضِي أمامَ أعُينِ الآخَرِين، دونَ أنْ تحظَى بأقلِّ درجاتِ الاهتمامِ، ترحلُ مشاعرُ المهتمِّينَ بالتَّفاصيلِ الصَّغيرةِ إلى حدودِ الخيَالِ، حينَ تطرقُ مسامعَهم أصواتٌ يهيمُونَ بها حُبًّا، أو يقرؤونَ رسائلَ أشخاصٍ لهُم في القلبِ رُكنٌ دافئٌ، يسمعُونَ تلكَ الأصواتِ كأحاديثِ الأطفالِ السعداءِ في صباحِ يومِ العيدِ، ويشاهدُونَ كلماتِ الرسائلِ كالنجومِ المتلألئةِ بصفحةِ السَّماءِ، تأسرُهم ابتساماتُ الفقراءِ، يتأمَّلونَ حنانَ الأمهاتِ، تدهشُهم لوحةُ الطبيعةِ وتنوُّعُ ألوانِها، يلتفتُونَ لرسائلِ الكونِ والأحداثِ، وفي محطّاتِ الانتظارِ والسفرِ يقرؤونَ وجوهَ العابرِينَ، ولا ينسونَ النظرَ إلى أنفُسِهِم في مرايَا الزَّمنِ، وصفحاتِ كِتابِهِ.!