القضاءُ منصبٌ عظيمٌ، ومنزلةٌ رفيعةٌ، وقد اشترط الفقهاءُ في القاضي شروطًا وأوصافًا؛ ليكون قضاؤه على أحسن وَجْهٍ وأتمِّهِ، ثمَّ تطلَّبوا فيه أوصافًا هي تحسينيَّاتٌ، غير أنَّ الآداب في حقِّ القاضي آكدُ منها في حقِّ غيره، فصدَّروا كتابَ القضاءِ بباب سموه «باب أدب القاضي»، وأوصلها بعضهم إلى خمسة عشر أدبًا، فمنها أن يكونَ مُهتمًّا بالشأن العام، ليكون ناصحًا للراعي فيما بينه وبين رعيته، وليحفظ للناس حقوقهم بالحيلولة دون وقوع الظلم بينهم،.
ومن آدابه كذلك الترفُّع بمنصب القضاء عن مغريات الدنيا، لا يتطلَّع لما في أيدي الناس، فيستوي عنده الأغنياء والفقراء، فيكون عزيزَ النَّفس، غنيًّا بالله، مُتأبِّيًا عن أنْ يُفتنَ بشيءٍ مِن الدنيا، إبقاءً لهيبة منصب القضاء، فوضيعُ النَّفسِ إنْ أُعطيَ خضع، وإنْ مُنِعَ سخِط، أمَّا مَن يعملُ للهِ وحده، فإنَّه لا ينقادُ لنفسهِ وهواها، فلا يَسخطُ إنْ فاتتْهُ مصلحةٌ دنيويَّةٌ، فهذا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بنُ أَسْلَمَ القرطبيّ، حين أراد الحَكَمُ المستنصرُ بالله -وكان من خيرةِ أمراءِ الأندلس- أنْ يختبرَ وَرَعَهُ وعفَّتَهُ، قطعَ عنه جِرايته -أي راتبه- فكتب ابنُ أسْلم إلى الحَكَم:
تزيدُ علَى الإقلالِ نَفْسِيْ نَزَاهة
وتَأْنسُ بالبَلوى وَتَقْوَى معَ الفقرِ
فمَن كَانَ يَخْشَى صَرْفَ دَهرٍ فإنَّني
أَمِنْتُ بفضلِ اللهِ مِن نُوَبِ الدَّهرِ
فلمَّا قرأ الحَكَمُ هذين البيتين، أمَرَ بِرَدِّ الجِراية إلى الشيخِ أبي إسحاق، فأعرض الشيخُ أبو إسحاق عنها، وتَمَنَّعَ مِن قَبولها قائلاً: (إنِّي -والحمد لله- تحت جِرايةِ مَنْ إذا عَصَيْتَهُ لَمْ يقطعْ عنِّي جِرايته!)، فكان الحَكَمُ يقول بعدها: (لقد أكْسَبَنا ابنُ أسْلَمَ مَخْزاة عَظُمَ مِنَّا مَوْقعُها)، وكان يسيرًا على الشيخ أبي إسحاق أنْ يتَّخذَ مِن قطْعِ الراتب سببًا للانتصار لحظوظِ نفسه، فيزعمُ بأنَّ الـحَكَمَ قطع راتبه نكايةً في العلماء، ولكان يسيرًا عليه أنْ يُهيِّج العامَّة على الحكَم، ولو فعلَ لغضبَ أهلُ قرطبة؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ الشيخ لا يغضب لنفسه، غير أنَّه لم يفعل ذلك؛ لأنَّ غايتَه رضا الله، فلا غرض له في مالٍ زائلٍ، ولا في الحفاظِ على هيبتِهِ ومكانتِهِ في المجتمع، فكَمْ لعبَ الشيطانُ ببعضِ الدُّعاةِ والمصلحين، فلم يميِّزوا بين الانتصار لله، والانتصار لحظوظ النفس.
ومن أدبِ القاضي أنْ يكونَ ورعًا؛ ليَحمله الورعُ على التَّصدِّي لمصالح الناس بنفسٍ طيِّبةٍ، مع استحضار العدل والمساواة بين الخصمين.
ومن أدبِهِ الحلمُ، وحسنُ الخلقِ، بحيث يتحمَّل ما يقع بحضرتهِ من الخصوم، مِن رَفْعِ صوتٍ ونحوه، فلا يغضبُ ولا يُستفَزُّ من أحد الخصوم، فسوءُ الخُلقِ قد يوقع القاضي في الظُّلمِ، ومعاقبة أحد الخصمين بغير وجهِ حقٍّ.
ومن أدبِ القاضي أنْ يكونَ مُتأنِّيًا متثبِّتًا في إصدار الأحكام، بالنظرِ في الدلائلِ والبيِّناتِ الواضحاتِ؛ لئلا يقضي بباطلٍ.
ومن أدبِهِ ألاَّ يقضي في حالةِ غضبٍ، ولا جوعٍ، ولا حالةٍ يُسرع إليه الغضب فيها، فالغضبُ يشوِّش الفكرَ، ولذلك قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا يقضينَّ حَكَمٌ بينَ اثنينِ وَهُو غضبَانٌ).
ومن أدبِهِ يَقَظتُه لِحَالِ المتداعيين، فبعضهم واعٍ ومُدركٌ وفصيحٌ منطيقٌ، وبعضهم تعتريه الغفلة، وقلَّة المعرف، وربَّما كان عَيِيَّ اللِّسانِ لا يُبين، فيعجز عن أنْ يُفصح عمَّا في نفسِهِ، فيكون مظنَّة أنْ يُغبَنَ، وهو ما يُحْوِج القاضي إلى مزيدِ تَحَرٍّ وتأمُّلٍ في القضيَّة، فقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّمَا أنَا بشرٌ، وإنَّمَا يأتينِي الخَصْمُ، فلعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ ألْحَنَ بحجَّتِهِ من بعضٍ، فأقضِي لَهُ، فمَن قضيتُ لهُ، فإنَّمَا هِي قطعةٌ من نارٍ).
ومن أدبِ القاضي أنْ يستشيرَ ذوي الرأي والعلمِ والخبرةِ، وينبغي أنْ يحضرَ جلسة الحكمِ أهلُ الخبرةِ في القضيَّةِ، فيحسن استضافةُ التجَّار بمجلس الحُكم في القضايا التجاريَّة، وهكذا.
ومن آدابِ القاضي أنْ يحذرَ من أنْ يُقصِّرَ في القضاءِ بتأخيرِ البتِّ في الحُكم، فالتأخيرُ ضررٌ كبيرٌ على صاحب الحقِّ، ويتأكَّد عليه المبادرةُ بإنهاءِ قضايا المحبوسين، وأمثالها من القضايا التي يكونُ الضَّررُ بتأخيرها شديدَ الضررِ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن ولاَّه اللهُ شيئًا مِن أمورِ المسلمِينَ، فاحتجبَ دونَ حاجتِهم وخَلَّتِهم وفَقْرِهم، احتجبَ اللهُ دونَ حاجتِهِ وخَلَّتِهِ وفقرِهِ يومَ القيامةِ)، وقد أخبرني رئيسُ إحدى المحاكم الفضلاء أنَّ خصمَينِ جاءا إليهِ يشكوانِ القاضي أنَّه لمْ يحضرْ في الموعدِ الذي حدَّده لهما، فما كان من رئيس المحكمة الفاضل إلاَّ أنْ قام معهما إلى مكتب القاضي المتأخِّر، وجلس في مكتب القاضي، وأنجز قضيَّتهما، قال: ومن يومها صار هذا القاضي المتخلِّف، لا يتخلَّف عن قضيَّة قط، فمَا أعظم ثواب هذا الرئيس المنجز.