الحريَّةُ وإنْ اختلفت مفاهيمُها من بيئةٍ إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى ثقافة، إلاَّ أنَّها في مجملها تظلُّ قيمةً إنسانيَّةً ساميةً، تمنحُ الإنسانَ حقَّ الاختيار فيما يشاء، يختار كيف يعيش، وبماذا يؤمن؟ وماذا يلبس؟ وإلى أين يذهب؟ لكنَّها (أيّ الحريَّة) تقعُ في مأزقٍ داخل المنظومة الفكريَّة العربيَّة، عندما تطرح تساؤلاً جوهريًّا وهو: هل يحقُّ للفردِ أن يختارَ دينه تحت مفهوم حريَّة الاعتقاد؟.
الأديانُ من أكثر القضايا التباسًا في الثقافات الإنسانيَّة عامَّة، وفي الثقافة العربيَّة على وجه التحديد؛ لأنَّ الدِّينَ من المنظور الثقافي ليس شعائرَ وعباداتٍ فحسب، بل إرثٌ وهويَّةٌ وحضارةٌ، أيّ أنَّ التخلِّي عن دينٍ معيَّنٍ هو أشبهُ بالتخلِّي عن وطن بأكمله، أو عن لغته بأبجدياتها كافَّة، هو عصيان وتمرُّد على المجتمع، وإن كانت حريَّة الاعتقاد تجترُّ كل تلك المخاطر والأشواك، فإنَّ مفهوم الحريَّة أيضًا سيأخذُ منحى آخر لا يخلو من التشوُّه والتوجُّس حياله.
إن كانت الحريَّة -بمفهومها الواسع- تشملُ حريَّة الاعتقاد، فإنَّها -حتمًا- ستواجه مأزقَ القبول في المجتمعات العربيَّة، لذلك ظلَّت الحريَّةُ موصومةً بالانحلال والتفسُّخ، وحوَّلتها الأنساقُ الفكريَّةُ من عدوَّةٍ للعبوديَّة إلى عدوَّةٍ للدِّين، رغم أنَّ الدِّين ذاته يؤسِّس لحريَّة الاعتقاد، ويرفض الإكراه في الدِّين، ويمنح الفرد حقَّ الاختيار.
الحقيقة أنَّ رفض حريَّة الاعتقاد كان سببًا رئيسًا خلف نشوء المنظمات الإرهابيَّة التي تعتقدُ بأنَّه من حقِّها فرض تدينها بالقوَّة والعنف على أيِّ مجتمع، وهو ما أوجد بدوره عنفًا مضادًا، عانت منه الأقليِّات الدينيَّة في أرجاء العالم كافَّة، وكما أنَّ للأديان أكثريَّة في بلد ما، فإنَّهم سيشكِّلون أقليَّةً في بلد آخر، وسيادة مبادئ العنف والإجبار ستجعل كلَّ أكثريَّة تمارس عنفًا مضادًا على الأقليَّة، أيّ أنَّنا أمامَ حالة فوضى دينيَّة تُراق بها الدماء، وتؤسِّس للتميُّز الدِّينيِّ والاضطهاد الإنسانيِّ.
الأديان عادةً ما تعامل بعضها بالمثل، فإنْ سمح دين ما لأتباعه بحريَّة الاعتقاد، فإنَّ الأديان الأخرى ستمنح أفرادها الحقَّ ذاته، ولا سبيل لتجاوز الحروب المفتعلة باسم الدِّين إلاَّ في منح الأفراد حريَّة اختيار أديانهم، والدِّين الإسلامي بمبادئه السامية والسمحة كفيلٌ بأن يرغِّب الإنسان الباحث عن الحقيقة في اعتناقه، ولن يعتنق أحدٌ دينًا إن جاءه بالقوة والعنف.